أكاد أعتذر عن اضطراري لكتابة هذه الكلمة، إذ كان عليّ أن أخلي مكاني لأي من الزميلات في “السفير”، لكنهن رأين أنني لست منافسا، ولست مزاحما، وأن وجود توقيعي قد يكسر تهم الهيمنة والاستئثار والانقلابية التي وُجِّهت إليهن.. أمس، والتي ربما تبدت آثارها في هذا العدد، وها أنا أكتب التزاما بالتوجيهات أكثر مما هي رغبة.
ليست المسألة احتفالاً بيوم عيد (بلا عطلة!!) يمن به الرجال على المرأة، كمكرمة إضافية أو كتنازل خطير واعتراف مثير (ومتأخر كثيرا عن موعده) بدعوى مجاراة منطق العصر فضلاً عن التمتع بميزة التفوق عن طريق السماح بالمشاركة في المسؤولية!
إنه إقرار بالفضيحة: نعم نحن متخلفون، وتعاني مجتمعاتنا العربية من خلل بنيوي يفضح ادعاءاتنا بمواكبة التقدم والعودة إلى المساهمة في الحضارة الإنسانية الخ..
لا يتصل الأمر بمقولة ان غياب المرأة عن المشاركة وتعطيلها عن ممارسة حقوقها الطبيعية واستمرار حبسها في ظلمة القيود التي تشل دورها أو تزوّره، إنما يعطل نصف المجتمع، بل الحقيقة ان ذلك كله يضرب قدرات المجتمع جميعا ويشوهه ويحد من قدرته على التمتع بعافيته الخلاقة.
وقديمة، بل بالية هي الادعاءات الرجالية التي تبرّر حجز المرأة في البيت، خصوصا في ظروف التحول التي شهدتها وتشهدها مجتمعاتنا المضطربة وشبه المفككة إلى حد أن بعضها يعيش داخل جحيم الحرب الأهلية وبعضها الآخر مهدد بمثل هذه الحرب، ناهيك عن تحدي الاحتلال الإسرائيلي المتأهب للتحول إلى هيمنة ثانية تتقاطع وتتكامل مع الهيمنة الأميركية.
لكن الحقيقة أن “الرجال” الهاربين من محاسبة أنفسهم (أو الغير!) على ما ارتكبوه من خطايا وأخطاء خلال تفردهم بممارسة المسؤولية في مختلف المجالات، والذين يعانون من نقص الثقة في أهليتهم (وبعضهم يعيش كالسارق أسير عقدة التمتع بما ليس من حقه)، هم هم الذين يرفضون دخول أي كفاءة، رجالية أو نسائية، إلى مجال هيمنتهم فينكشف أمرهم ويتهاوون مُدانين بإيذاء المجتمع أو الوطن كله.
والحقيقة ان الذين يحرمون النساء من دورهن الطبيعي في المجتمعات العربية هم هم الذين ينكرون على الرجال أيضاً دورهم الطبيعي، فالكل في نظرهم رعايا لا مواطنون، سواء أكانوا ذكوراً (وملتحين) أو اناثاً معطرات هن متعة الليل وهمّ النهار!
الحقيقة ان مجتمعاتنا المتخمة بمشكلاتها البنيوية ما زالت “قيد التأسيس”،بل انها تحمل تشوهات مأساوية تمنع ترسيخ وحدتها، وتحرمها من اعتماد نظام قيم يفتح لها باب التكامل والمنعة بالتعرف على الذات وعلى الاخر، وبالاعتراف بناسها، كل ناسها، وبحسم مسائل خطيرة كالموروث في المفاهيم الدينية والتقاليد الاجتماعية.
أول العيب في السلطة، ومنتهى العيب في السلطة.
فالسلطة تخاف ان يسبقها مجتمعها فتقمعه… خصوصاً انها بالاجمال، شديدة التخلف حتى تكاد تكون “جاهلية” بدكتاتوريتها وقسوتها البالغة.
ولأن السلطة، في المجتمعات العربية عموماً، ليست تجسيداً للديموقراطية ولا تعبيراً عنها، ولا هي تؤمن بها اصلا، فهي تحجر على “رعاياها” وتحرمهم حقوقهم البسيطة في الانتخاب او الاختيار الحر، ولا تشركهم رجالا قبل النساء في قراراتها جميعاً، لا سيما المصيرية منها، بما في ذلك مواجهة الاحتلال بالمقاومة الشعبية او بالحرب الشاملة،
في مجتمع بلا مواطنين، تتحكم السلطة بشرائعه وتشريعاته ونظام قيمه، بغير مشاركة وبغير شورى فعلية، تتبدى المطالبة بحقوق للنساء “مزايدة” بل لعلها “تزيد”… فكيف يشرك الرجل امرأته في سلطة لا رأي له فيها ولا دور غير تنفيذ ما تقرره، او ما تفرضه عليه!
ان “السماح” للرعايا بالتحول الى مواطنين هو اول الطريق نحو تمتع الرجال والنساء بحقوقهم وحقوقهن الطبيعية التي لا تحرمها ولا تمنعها الشرائع السماوية اذا ما فهمت بمنطق العصر، واذا ما أُسقط مستغلوها ممن يفسرونها، مباشرة او بالأجر، بما يخدم احتكار السلطة (والثروة والسلاح) في يد فئة قليلة تعادي الرجال (كمواطنين) بقدر ما تعادي النساء (كمواطنات)، فتحقق المساواة وهنا فقط بين الجنسين بالغائهما جميعاً.
والمعركة من اجل ان نتحول جميعاً الى “مواطنين” طويلة جداً وتحتاج جهوداً خارقة، وتحتاج اولا ان يتوقف “الاقتتال” المفتوح بين “الرعايا” من الرجال والنساء على حقوق لا يملكها اي منهم لكي يمنعها عن غيره!
نشرت في “السفير” في 8 آذار 2000