إنه لشيء محزن بل ان يُبكي ومخجل هذا الذي نرى أنا فلسطيني وأبي فلسطيني ولم أغادر هذه البلاد لا مدنها ولا قراها. أنا هنا وأنا ابن هذا الوطن الجريح وعندما رأيت ما رأيت لم أصدق ولم أتصور ولم أتخيل ما رأته عيناي، لم أحاول في يوم من الأيام تصور بشاعة ما نراه الآن.
بمجمل شعوري الممزوج بالألم والخيبة بل الاشمئزاز والقهر كان هناك شعور بالبعد والغربة عن هذا الواقع وبرغم أنني لمَن يعتبرون أنفسهم من أكثر المتابعين بل إن جاز لي القول، المدافعين عن القضايا الوطنية إلا أنني ولأول مرة أشعر بالغربة، أشعر أني بعيد كل البعد عن الحقيقة وعن والواقع وعن ما يعيشه أبناء شعبي وأبناء وطني الممزق في هذا الجزء الصغير من العالم كان ذلك عندما تسللت من خلف الأسلاك الشائكة بعض المقاطع المصورة عن تلميذةٍ من الخليل، هذه التلميذة الفلسطينية التي تحمل مع اسمها ونبرة صوتها موشحات فيها آلام وهموم هذا الشعب بقدر ما الذي تعبر فيه عن زيتون فلسطين وعن عمق جذور هذا الشعب.
ليلى ليست الفلسطينية الوحيدة في هذا العصر، ولكنها الفلسطينية الوحيدة التي أشعرتنا بالغربة. أشعرتنا بمدى انعزالنا عن الواقع وعن الحقيقة لدرجة أن أحد أبناء الخليل الذي يعيش معي في نفس الزنزانة ذاتها قال لي “أنا نفسي لا أعلم شيء عن هذا الذي يحدث في الخليل”، صحيح أني تفاجأت حينما سمعت هذا الكلام ولكني أيضاً لم أسمع ولم أشاهد مثلا مثل هذا الذي شاهدت، وهنا لا بد أن أسجل وأقول على من تقع المسؤولية؟ ومن الذي يتحمل المسؤولية عن ما جرى ويجري ومن الذي كان باستطاعته أن يفعل شيئاً ووقف عاجزاً امام تجاهل المصيبة وأعرض عنها؟ إنها كارثةٌ مزدوجة وتحمل بين ثناياها كل الكوارث التي تعرض لها هذا الشعب. إنها قضية تستحق ليس فقط تسليط الأضواء عليها بل تستحق وضعها في مكان الكثير من أولوياتنا الحالية.
فإن كانت قضية الأسرى تتعلق بالإنسان أو قضية الحدود تتعلق بالأرض فان قضية المياه في مثل أهميتها كما قضية الأقصى الذي هو أقدس المقدس.
فقضية الخليل هي أم كل هذه القضايا، فهي معاناة الإنسان الفلسطيني وهي قضم الأرض الفلسطينية وهي سلب المياه الفلسطينية وهي تهويد المقدسات الإسلامية وهي تهجير وتخويف وتحطيم لهذا الشعب العظيم. نعم الأمر لا يستحق الاهتمام فقط. بل إنه يستحق الاستنفار والثورة على ما يحدث، أي شعب في هذا العالم أجمع لا يمر إلا عبر أجهزة الكشف عن المعادن في الذهاب والإياب من المدرسة. أي شعب في هذا العالم أجمع تمنع الطالبات من المرور بسبب دبوس معدني صغير يعلق في منديل طالبة صغيرة لم تتجاوز السابعة عشر من عمرها، أي شعبٍ يعيش حياة الخوف في كل الأوقات أي شعبٍ يعيش استباحة يومية بل لحظية ففي كل لحظة هناك استباحة للبيوت والأماكن العبادة، ولأماكن الدراسة ولأماكن الرزق واللهو ولكل بقعةٍ يعيش عليها الفلسطيني الصامد.
الخليل كالقدس ورام الله وغزة ولا شيء يجعلها أقل مكانة من القدس ورام الله وغزة! فلماذا السكوت عما يجري هناك؟ ولماذا عدم الاهتمام بما يحصل هناك، فهناك شعب يُسلب منه كل شيء، في كل لحظة تُسلب حريته وتُسلب أرضه ويُسلب استقراره وتُسلب حياته وجميع حقوقه الإنسانية التي يحصل عليها كل سجناء العالم بلا استثناء.
حقاً فقد كان وصف ولاء لمشكلتها ومشكلة عائلتها وأهل الخليل جميعاً حقيقياً وصادقاً، فقد قالت أن الأسير يستطيع رؤية الأسير الآخر ولكنهم هم لا يستطيعون فعل ذلك. هذا وصفٌ دقيق يا ولاء نحن داخل الأسر وباستطاعتنا التزاور والالتقاء بل أكثر من ذلك فإن باستطاعتنا الدراسة والتعلم والدفاع عن كرامتنا حينما نشعر بأي استهدافٍ لنا.
صحيح أنها فتاة صغيرة في السن ولكن آثار هذه الجرائم بائنة في نبرات صوتها الطفولي فهي ليست مسيسة ولكنها بحكم القدر والجغرافيا أصبحت أكثر معرفةً بحالتها من كل علماء السياسة.
إنني أشعر بألم شديد لحالة طفلٍ يستيقظ على أصوات بنادق المحتل وينام على أصوات صراخ وإهانات مستوطنيه. هؤلاء المجرمون اللذين يغرسون الحقد في نفوس الرضع منهم مما يراه ما يسمى بالطفل عندهم يجعله قادرا على الإيذاء وهو لم يتقن حركاته بعد، وبعد ذلك يقال له طفل أي طفلٍ هذا؟ عن أي طفلٍ تتحدثون وعن أي شريعة غابٍ يلقنون ويُدّرسون بل ويُشّربون لأن ما شاهده العالم لا نستطيع وصفه بالتعليم، إنها مجموعة من حقن البغض والكراهية والحقد ممزوجة بطريقةٍ قذرة لم تستطع أجسام هؤلاء الصغار احتمالها فحولتها إلى أشباحٍ. لا يسلم منهم كبيرٌ ولا صغير، إنها نوع خاص من أنواع السموم تحقن للإنسان ليقاوم سموم الأفاعي والحشرات القاتلة فمن يرى هؤلاء اللذين يسمون بالأطفال وهم يسبون ويشتمون ويصرخون وهم يرشقون المتاجر بالحجارة والقاذورات يعتقد أنهم آلات متحركة (روبوتات) ولا تستطيع هذه الآلات تميز أو تعقل.
وفي الجانب الآخر نرى أطفالاً يبدو وكأنهم حقنوا جرعة روتين قاتل تجعلهم يصطفون في طوابير أمام حواجز القهر والاضطهاد والعنصرية وكأنهم ينتظرون تسلم جائزة غير مكترثين بجنودٍ مدججين بالأسلحة، ويشعرون بالفخر وهم يفتشوا ويضطهدوا، أطفال لم يتجاوزوا العاشرة من أعمارهم.
…ليلى… هي فلسطين… فهي استطاعت باقتدارٍ أن تعبر عن ألم وهموم ومآسي هذا الشعب.. وهي استطاعت أن تشعرنا أننا غرباء عن هذا الشعب. وهي استطاعت بحكمة أن تشعر العالم كله أنها وشعبها يستحق الحياة بل إنها وشعبها الأجدر بالحياة. وليست طريقه طريق غير قابلة للحياة ولكنها فلسطين النابضة والناضجة للحياة والمستعدة دوماً لمقاومة كل من يحاول منعها من العيش والحياة، إن ليلى هي فلسطين يافا بعبق بياراتها فلسطين عكا بشموخ أسوارها فلسطين القدس بهيبة وقداسة مقدساتها فلسطين الخليل بروعة جبالها وكرومها فلسطين نابلس بكل مكنوناتها فلسطين بيت لحم بعبق التاريخ من كنائسها
إن ليلى مميزة وقد فرضت على الفضائيات إظهار حقائق شعبها وآلامة وهذا دورهم الذي لا يجب التخلي عنه.
اسامة الاشقر
كتبت في تاريخ 16/7/2009 في سجن عسقلان