ترك جورج الزعني بصمته على حياتنا الثقافية، ودخل دائرة الصمت منذ حين، ثم رحل بهدوء، ولن يعود بمقدوري أن أنتبه ـ فجأة ـ إلى دخوله مكتبي حاملاً أفكاره بيديه، رافعاً صوته بضرورة التحرك ورعاية الإنتاج الجديد للشباب حملة الرؤية والنظرة المختلفة عن واقعنا طريقاً إلى المستقبل.
قاوم جورج الزعني كل أصناف المرض، في المجتمع بداية، ثم في وسط الإبداع الفني، قبل أن يصارعه في جسده الهش. ابتكر الأفكار الجديدة، أقام معارض غير مألوفة، أعاد اكتشاف فنانين مغمورين وقدمهم في صورة تليق بهم. ابتدع أنماطاً جديدة في تقديم «العادي» عبر إطار فني، فإذا فنجان القهوة يغدو موضوعاً لمعرض، وإذا ثمة أساليب جديدة في تقديم الفنانين المنسيين، نحاتين ورسامين وخطاطين مبدعين.
لم يكن يهدأ، ولم يخطر بباله أن يتقاعد يوماً، ولم يكف عن التفكير بأساليب جديدة لتقديم أنماط الإبداع المختلفة، حتى في العادي من أدوات الخدمة في الحياة اليومية… ومن هنا انه حوّل المكحول إلى مقصد للمبدعين في مختلف المجالات، موسيقى وغناء، وأرض تلاقٍ بين المختلفين الذين يوحّدهم الفن الجميل.
كان بإمكان جورج الزعني أن يتابع حياته في لندن، فيمرح ويمضي أوقاته في التمتع بأسباب الجمال.. لكن «حب الوطن قتال»، وهكذا عاد إلى بيروت التي رأى فيها عاصمة الدنيا وأميرتها، واعتبر أن من حقها عليه أن يرفدها بأسباب الإبداع والجمال.. وبعد عودته كان لا يهدأ، ما إن يفرغ من تقديم معرض لرسام، أو مبدع في مختلف مجالات الفن حتى يكون قد جهّز للمعرض التالي، ثم لما بعده.
وكان بديهياً أن يتقدم ابن بيروت طابور الذاهبين إلى الجنوب تحية للمقاومة وأن يقدّم أكثر من معرض عنها وعن عاصمة الجنوب، صيدا، وعن قانا أيقونة الشهادة، ثم عن التحرير كإنجاز تاريخي يحصّن كرامة أهل المنطقة جميعاً ويرفع رؤوسهم عالياً بأرضهم التي لا تُهزم.
سعى وراء النحاتين والشخصيات الذين استحقوا أن يعملوا الأزاميل في الصخر لتخليدهم بوصفهم صفحات من تاريخ لبنان الذي كان يراه ملء الكون، فأعدّ معرضاً خاصاً، ثم رسوماً لهم. وكذلك فقد شغلته فلسطين وأقام لها وعنها معارض شملت إلى المبدع محمود درويش القائد ياسر عرفات ومدينة يافا وعن المدينة ـ الرمز المقدس للأديان جميعاً القدس، كما عن صائب سلام والإمام الصدر وغيرهما.
جورج الزعني الممتلئ شغفاً بالجمال وأسبابه، بالتاريخ وأبطاله، المبتكر، المجدّد، الذي يرى أسباب الإبداع في العاديات من وجوه الحياة وصولاً إلى الأدوات المنزلية، كرّس نفسه حاضنة للفنانين والمبدعين جميعاً، وبهر الناس بالعادي من وجوه الإبداع متى كشفت خباياه.. من هنا ان المكحول صارت أرض اللقاء بين مَن أضافوا إلى اللحن والغناء والعزف وأسباب الطرب عشاق الحياة.
لقد خسرت بيروت بعض الإبداع وعشق الحياة والإيمان بالوطن وإنسانه، برحيل هذا الذي شكّل بنفسه الراعي والناقد والمقدّم والنجار والحداد والخطاط، فإذا معرضه الدائم بوجوه كثيرة وبأنماط من النتاج الفني ظل على الدوام مرشحاً لأن يأكله الغبار لولا جورج الزعني.
وداعاً أيها الصديق الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ثم رحل بصمت وبغير وداع.
نشرت في “السفير” في 14 كانون الأول 2015