عاد الرئيس دونالد ترامب إلى واشنطن من رحلة عاصفة ليجد في انتظاره أجواء إعصار يؤذن باقتراب نهايته السياسية، العاصفتان تختلف أسبابهما وتتشابه نتائجهما. الصورة الراهنة لأمريكا تختلف حتما عن صورة أمريكا قبل انطلاق ترامب برحلته، وصورة العالم بعد الرحلة تختلف إلى حد كبير عن صورته قبل الرحلة. بل ولا أستبعد أن يحظى هذا الشهر، شهر مايو من عام 2017، باهتمام فائق من جانب المؤرخين وعلماء السياسة، ففي هذا الشهر وبخاصة في أيام المنتصف اكتشف العالم الغربي، بل ربما العالم بأسره، أنه ولأول مرة منذ مدة طويلة، يعيش بدون دولة قائد. اكتشف، وهو الأخطر، أن رئيس أمريكا، الدولة المفترض أن تكون الدولة القائد، يتصرف تصرفات تنبئ عن جهل صاحبها بأصول وقواعد التجارة الدولية وأصول وقواعد أمن العالم وسلامه إلى الحد الذى دفع مجلة دير شبيغل الألمانية إلى القول بأنه “خطر على العالم”. اكتشف أيضا أن رحلة الرئيس الأمريكي الأولى بعد توليه منصبه أضعفت العناصر التي أسست للنظام العالمى الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. إذ وعلى سبيل المثال، يعتقد “ريتشارد هاس” أحد أشهر خبراء أمريكا في الشؤون الخارجية، أن تصرفات ترامب في هذه الرحلة أوحت للقادة الآخرين بأن أمريكا تخلت عن مبدأ تشجيع مختلف الحلفاء على الاعتماد عليها، وهو المبدأ الذي كان على امتداد سبعين عاما أو أكثر جوهر الاستراتيجية الأمريكية ومصدرا من أهم مصادر قوتها. يركز هاس على موقف الرئيس ترامب من تطبيق المادة الخامسة من ميثاق الحلف الأطلسي التي تفرض تقديم المساعدة الفورية لأي دولة في الحلف تتعرض للعدوان دون النظر إلى مدى انضباطها في تسديد نصيبها في موازنة الحلف. يقصد أيضا ولا شك الصخب الهائل الذي افتعله الرئيس ترامب حول مقايضته حماية دول الخليج “ببلايين الدولارات وملايين الوظائف”، وهي الحماية التي كانت أمريكا تقدمها تلقائيا لحلفائها ولمصالحها كدولة أعظم وقائد للنظام الدولى.
***
جدير بنا ونحن نعيش هذه المرحلة الدقيقة أن نتوقف أمام كل تطور لنسأل ونفهم ونسجل. لا شك أننا نختلف عن “اللاحقين” الذين سوف يعيشون في ظل وضع أتوا فوجدوه قائما. هذا الوضع الذي سوف يجدونه يجري الآن صنعه أو تشكيله لبنة فوق أخرى ونحن شهود على ما يجري. ومن الأفضل لهم ولنا أن نتابع بوعي ونسأل حتى نفهم ونعرف الأسس التي سوف يقوم عليها البناء الجديد. كنت أحد الذين تابعوا انحدار الولايات المتحدة من موقع القوة المنفردة الأعظم، وما زلت مهتما بمتابعة تصرفاتها كدولة عظمى منحدرة. كانت، ولا تزال مقارنة مثيرة تلك التي نجريها بين ولاية باراك أوباما وولاية دونالد ترامب، وبخاصة تصرفات الرئيسين وقد أشرف كلاهما على “إدارة انحدار” أمريكا خلال سنوات حكمه. نسأل مثلا، أي نوع من القادة تفرزها دول في مرحلة انحدارها، ونسأل كيف تتصرف الدول وهي تنحدر، أتتشدد في التمسك بقيم نهضتها أم تعود إلى قيم ما قبل النهضة. أتغامر فتشاكس وتتحرش أم تنسحب فتنعزل لتتأقلم مع وضعها الجديد أو لتنفرط. أفرزت المرحلة أوباما وترامب وهما نقيضان في كل سمات القيادة والقيم والسيرة والأسلوب وإدارة الشؤون الخارجية، وقد جربا أسلوبين مختلفين في الحكم والتعامل مع الأجانب ومصادر القوة ومع ذلك استمر الانحدار. شكت أوروبا من إهمال أوباما لها وتشكو الآن من احتقار ترامب. لم تتخذ موقفا حادا من أوباما على امتداد ثماني سنوات، بينما لم تتحمل غطرسة ترامب خلال ساعات معدودة قضاها بين بروكسل ومنتجع تاورمينا في صقلية.
***
سيكون ممتعا ولا شك التوسع في المقارنات لنتعرف بمزيد من الثقة على تصرفات الدول في مراحل انحدارها. أظن أن المثال الأجدر بالاهتمام هو الحالة البريطانية. جربت بريطانيا الانحدار من أعلى درجات “العظمة” إلى وضعها الحالي الذي يصعب وصفه بأنه أدنى درجات الانحدار. يمكننا أيضا مقارنة تجربة انحدار مكانة مصر الدولية وكذلك الاقليمية بتجربة انحدار مكانة تركيا خلال القرن التاسع عشر وانحدار مكانة الأرجنتين والمكسيك وإندونيسيا في أواخر القرن العشرين. هل توجد قواسم مشتركة لهذه الدول خلال مراحل انحدارها وفي نهايتها؟ نعم توجد وكثيرة، وهي القواسم التي تشكل في مجملها حال الارتباك والضعف والانفراط والثورة السائد في مختلف أقاليم العالم النامي.
لا أبالغ حين أضع كثيرا من اللوم للارتباك الحالي في أوروبا على واقعتين تاريخيتين، أولهما: البريكسيت أي قرار بريطانيا الخروج من أوروبا في بداية مرحلة جديدة من مراحل انحدار دورها ومكانتها الدولية، وثانيهما الانسحاب الأمريكي الثاني من أوروبا خلال فترة لا تزيد عن عقدين، هذه المرة على يد مغامر شبه جاهل بالسياسة الدولية ورافض لقيم النظام الليبرالي العالمي ومتعال على كل حلفاء أمريكا.
***
كانت فعلا رحلة تاريخية بالمعانى التالية. حققت لأمريكا، حسب تصريح الرئيس ترامب فور أن وطأت قدماه أرض إيطاليا، بلايين الدولارات وملايين الوظائف. وهذا في حد ذاته انجاز لا أظن أن الكونجرس الأمريكي يجرؤ على حرمان أمريكا منه بعدم تصديقه الآن على الاتفاقات التي وقعها الرئيس في الرياض. لم يذكر الرئيس ترامب انجازا ملموسا آخر سواء فيما يتعلق بالتزام حماية الحلفاء في مواجهة التهديد الايراني أو فيما يتعلق بالحرب الفعلية والحقيقية على الأرض ضد الارهاب. بل، وحسب رأي أوروبي، أضعفت الرحلة فرص التوصل مع اوروبا إلى صيغة عملية للمشاركة في المجهودين.
***
حققت الرحلة، بمعنى ثان، اكتشاف العالم لحقيقة أنه يعيش بدون قائد. واقع الأمر يشهد أن السيد ترامب لم يتصرف في سلوكه الشخصي والعائلي خلال الرحلة تصرفات تليق بزعيم العالم. لم يكن في هذه الرحلة يتحدث بلغة قائد نظام دولي ولا حتى بلغة قائد حلف أو معسكر غربي. كثيرون في الغرب وخارجه لم يصدقوا أن هذا الرئيس كان قبل أسابيع قليلة جدا يتعرض بكثير من الأذى النفسي والبدني والسياسي والديني للشعوب الاسلامية عامة، وينقل عن أحد كبار مستشاريه أسوأ ما في خزائن الفكر العنصري المتطرف في الغرب. واضح جدا أنه كان يستعد لرحلته في دول اسلامية بينما هو مستمر في توقيع قرارات رئاسية تهدد سلامة واستقرار مواطنين أمريكيين مسلمي الديانة.
***
تولّد عن الرحلة، بمعنى ثالث، شعور ساد مختلف الأنحاء التي زارها، ولكن أيضا أنحاء عديدة من العالم، بأن رئيس الدولة، زعيمة العالم الحر والمدافعة منذ الحرب العالمية عن حقوق الشعوب وحرياتها، لم يتذكر هذه الشعوب مرة واحدة خلال الرحلة بطولها وعرضها. لم يأت على ذكر حق من حقوقها أو مبدأ من مبادئ الشرعية الدولية. لم يتعاطف مع شعب فقير أو مريض أو مضطهد. لم يترك خلفه رسالة واحدة، موجزة أو مسهبة، يمكن أن يحتفظ بها شعب للذكرى أو لحساب في يوم قادم. لذلك وحين يرحل عن منصبه، سواء بعد أيام قليلة أو أعوام، لن تترحم على عهده شعوب كما تترحم الآن على عهد باراك أوباما الذي بدأ عهده برسائل إلى الشعوب وبخاصة إلى الشباب. كانت مفارقة صادمة لخبراء ترامب في العلاقات العامة أن تخرج حشود لاستقبال الرئيس السابق أوباما في برلين متذكرة رسالته لهم، وتخرج مظاهرات منددة بالرئيس ترامب بسبب موقفه من اتفاقية المناخ وسياساته العنصرية ودعمه لمرشحي التطرف القومي والعرقي.
في نفس المعنى، سوف يتذكر الفلسطينيون هذه الرحلة بعدم الرضا إن لم يكن بالغضب. جاء ترامب ورحل ولم يذكر لفلسطين أو عنها كلمة طيبة واحدة. أثنى على اسرائيل وحكامها. أشاد بهم وأشادوا به. أخفوا تراضيهم ورضاهم عن تأجيل نقل العاصمة إلى القدس. لم يخف مرافقوه والمحللون حقيقة أنه يحاول تجاوزهم بترتيب عقد اتفاقات اقليمية إذا حققت شيئا فلن تحقق أكثر من تقزيم قضيتهم.
***
كانت رحلة تاريخية بمعنى رابع، ففي اليوم قبل الأخير من الرحلة انتفضت دول اوروبية في مجموعة الدول الصناعية التي اجتمعت في صقلية. لا يمكن انكار حالة الاحتقان التي أصابت قصور صنع السياسات الأوروبية خلال الشهور الماضية وربما قبلها أيضا، بسبب تردي مظاهر السلوك السياسي الأمريكي وتعدد ظهور علامات على نوايا للتنكر لالتزامات أمريكا تجاه أوروبا. أعتقد أن رد فعل المستشارة “ميركيل” وقد فاجأ العالم كله، وصلابة يد وموقف الرئيس “ماكرون” والغضب المشحون لدى أقوى حليفين لأمريكا في المجموعة وهما الرئيس الكندي ورئيس وزراء اليابان وخيبة أمل المضيف الايطالي الذى توقع دعم موقف بلاده من قضيه الهجرة بعد أن أصبحت بلاده هدفا أول للهجرة من أفريقيا، توقع الدعم من أمريكا ولو مجاملة فلم يأت، كلها وغيرها غير قليل كانت مظاهر كاشفة لتحول عميق حدث بالفعل داخل معسكر الغرب وفي علاقته بالعالم الخارجي. هذه المظاهر هي أيضا حوافز لكل من روسيا والصين كدولتين صاعدتين نحو القمة لتكونا جاهزتين لمرحلة جديدة في علاقات القوة العالمية. يبقى السؤال جاهزا دائما وأبدا، هل كانت هذه التحولات الكبرى، أو لا تزال، دافعا للدول المعتمدة على الولايات المتحدة في أمنها وبرامج تنميتها لتوخى الحذر من تقلبات محتملة في السياسات الأمريكية وبخاصة سياسات الحماية والدعم؟
***
كانت رحلة تاريخية بمعان عديدة، وسوف تزداد المعاني مع مرور الوقت واتضاح مدى استيعاب دول أكثرها معتمد على أمريكا وأقلها دول صاعدة لمغزى التحولات وعمقها. تزداد المعاني أيضا عندما تتعقد أو تنفرج أزمة النظام السياسي الأمريكي، وعندما يتفاقم سباق التسلح في الشرق الأوسط والشرق الأقصى وتتسارع الخطى نحو الانفلات العسكرى.
رحلة بالفعل تاريخية ومرحلة بالفعل مثيرة.
ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق