جلسا على طرف مقهي في شارع صغير من شوارع مدينة جنيف. طلبا قهوتهما وهما يغالبان التعب، فالليلة التي مرت كانت على قصرها طويلة والحديث بينهما لم يكتمل. الدقائق تمر وعيونهما لا تريد الافتراق. عيون جربت الافتراق طويلا، جربته سنوات بل عقودا وعادت عنه من أجل يوم وليلة وها هي تستعد لافتراق آخر. باقٍ من الزمن ساعة.
***
قالت تعالَ.. تعالَ نحلم. رد عليها بسرعة: وهل توقفنا، ألم نكن نحلم طيلة نهار الأمس والمساء والليل؟ اتفقنا ونفذنا اتفاقنا، اتفقنا على أن نعيش يوما بليلة خارج واقعنا، أي نصنع حلما ونعيشه. قالت: أقصد أن نحلم بمستحيل. قال: هل نحن الآن، وهل كنا خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، نحيا في الممكن؟ قضينا سنوات نحلم بمستحيل وها نحن نعيشه لساعات. قالت: أقصد نحلم بمستحيل آخر. نعم حققنا حلما وعشنا المستحيل، تعالَ نحلم بمستحيل ثان. تعلم عني عشقي للتحدي حتى في أحلامي. مثلا، أحلم الآن بيوم تنتصر فيه التكنولوجيا انتصارا جديدا فتسمح لنا، أنت وأنا، بأن نشاهد تسجيلا حيا لأول لقاء لنا، نظهر فيه وتظهر معنا كل الزهور التي جلسنا في وسطها. يظهر فيه البط في البحيرة يجوب المياه راضيا وسعيدا. أحلم بأن ينقل التسجيل أصوات شقاوة المراهقات وهن يتظاهرن باللعب وفي الحقيقة يسترقن السمع ليتنصتن على أعذب الكلمات. أحلم بأن نسمع فيه مختلف الألحان التي دندنت بها الطيور وهي رائحة وغادية فوق رأسينا. وكل ما تبادلناه أنا وأنت من معانً صغناها في كلمات أذكرها حرفيا وأعرف جيدا ما تركته فينا. أحلم بالتكنولوجيا التي تجعلني أسمع نفسي وأسمعك ونحن نتنافس في وصف مشاعرنا وأحاسيسنا في زمن كان الخجل فيه ملازما لا يغادر، يرفض حتى أن يدير وجهه تفهما أو نضجا.
***
لا مستحيل في العصر الذي سوف يعيش فيه أولادنا وأحفادنا. في عام 1888 أخرجت معامل كوداك أول كاميرا فتحقق حلمٌ كان مستحيلا. منذ ذلك الحين ونحن نلتقط لأنفسنا ولأشياء صورا فوتوغرافية في لحظات نريد أن نتذكرها. حبسنا اللحظة في صورة. لحظة حفلت بالكثير جدا من الأصوات والمعاني والمشاعر والرغبات، حبسناها جميعها في صورة فوتوغرافية ساكتة جدا وكتومة جدا. كثيرا ما عدنا إليها ومع الزمن تأكدنا أنها تخفي أكثر مما تظهر. نتذكر شخصا كان هناك فلا نجده في الصورة لأنه، كما قيل لنا، كان خارج الإطار. هل كانت الموسيقى أيضا خارج الإطار؟ والكلمات التي همست بها في أذنك؟ رضينا بها لأنها في بداياتها قالت أشياء واحتفظت لنا بأشياء. كنا نرى فيها ما لا يراه الغرباء. تذكر صورة الحفل الذي كان مسرحا لأول لقاء بيننا. هناك في آخر الصالة، وخارج إطار الصورة، كان يقف أبي وأمي يستقبلان الضيوف، وهنا على يمين ضيوف الصورة أطفال يتشاجرون وعلى يسارهم فتيات يرقصن على لحن لفريد الأطرش. لا أحد من هؤلاء ظهر في الصورة ولكننا كنا نعرفهم بالاسم ونحكي عنهم حكايات، حتى لحن فريد الأطرش كنا نذكر اللحن الذي جاء بعده والفتاة التي اختارته لترقص عليه. أقول حبسنا ذكرياتنا عن تلك الليلة في صورة ظنا منا أنها سوف تفي بالعهد ما بقيت سليمة. رأينا فيها ما التقطت، ونحن من الذاكرة نقرأ فيها ما لم تلتقط. اجتمع عليها وعلينا الزمن، بهتت الذاكرة وبهتت الصورة.
***
أعرف الذي تحلمين به. تطلبين صورة تنقلنا من الحاضر إلى لحظة طويلة عشناها في الماضي. لحظة يختلط فيها الشكل بالصوت بالرائحة بالرغبة وبالعواطف إن أمكن.. لحظة تحكي ما سبقها ولا تسكت عند نهايتها. قالت أحسنت. هذا بالفعل ما أحلم به. أريد أن أكون وتكون معي في اللحظة التي بدأت عندها قصتنا. أريد أن أعيش مرة أخرى لحظة ثنائك على ذكائي ثم على قوامي. أحلم بلحظة أسمع منك فيها مرة أخرى كلمات اشترك في صياغتها عزم رجل يقرر وعذوبة رجل منبهر ومرتبك. أنا رأيتك وأنت لم ترَ نفسك. أتظن أن يوما سيأتي نتمكن فيه من أن نختار لحظة معينة من الماضي لنعيشها كاملة مرة ثانية. إنه حلمي الأعظم وسترى أننا سنكون معا يوم يتحقق وسنختار معا اللحظة التي نحلم بأن نعيشها مرة ثانية. لحظة أراني فيها وأنا أحبك وترى نفسك وأنت تحبني وكلانا معا نرى الدنيا وهي تحبنا ونحبها.
***
هل تعلم معنى أن يتحقق هذا الحلم؟. معناه أنني أستطيع أن أعيش لحظات من الماضي مرة بل مرات إن شئت. أستطيع أن أختار لحظة وصولي إلى هذه الدنيا، فأسمع أول صرخة في حياة متعددة الصرخات. من هناك، من حيث خرجت، حملوني إلى صدر أمي، فكان الحضن الأول في حياتي، حضن لم أعرف مثله حضنا آخر. اعذرني، اعذر صراحتي. معناه أيضا أن أستعيد صوتها وهي تدللني وتنهرني وتعلمني وتغني لي فأنام. أحلم ـ لو سمحت التكنولوجيا ـ بأن أختار لحظتين فارقتين، لحظة كرهت فيها رجلا إلى حد تمنيت أن أعذبه كما عذبني فأعيش لحظة الكره مرتين، ولحظة أحببت فيها رجلا إلى حد تمنيت أن أعيش كل أيامه معي مرتين وثلاثا وأربعا.
***
اذهب ترعاك الملائكة. وعدتك وأوفيت بوعدي. وهذا وعد جديد. أعدك أن تجدني بجانبك في الدقيقة التي يعلنون فيها أن التكنولوجيا حققت لنا الحلم. أرانا والسعادة تغمرنا والشوق يدفعنا لنختار من ماضينا لحظة نعيشها مرة ثانية ومرات إن شئنا.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق