عشنا أياما في خضم تجربة جربتها إسرائيل مع العرب مرارا. تأتي التجربة تحت عنوان من ثلاث كلمات هي “استراتيجية هجومية شاملة”، استراتيجية تسمح بتعبئة كل إمكانات “الأمة”، متعمدا هنا عن قصد أكيد استخدام كلمة “الأمة”، باعتبار أنها في المعنى والحيز أوسع مساحة وأعمق تاريخا وأوفر إمكانات من كلمة الدولة، وباعتبار أننا نراعي في فهمنا لهذه الدولة أن التعامل المجدي لفهم حقيقة القوة الإسرائيلية يكون بحساب إسرائيل أمة واسعة الانتشار فهي موجودة في كل ركن من أركان العالم منذ مطلع التاريخ، وهي عظيمة الإمكانات إلى حد لا يقارن بإمكانات دولة عادية كما تحب أن تبدو أحيانا، محدودة المساحة قليلة السكان، بينما هي في الحقيقة أمة مغروسة أو غرست نفسها كرها أو ودا أو واقعا في كل دين سماوي وغير سماوي، ولم تتوان عبر القرون عن التدخل مرات عديدة بالتحسين أو الإساءة لتغيير نصوص أو أساطير أو وعود في هذا الدين أو تلك العقيدة.
***
رأينا بعيوننا وقلوبنا كيف أعدت حكومة إسرائيل، باسم أمتها الممتدة، استراتيجية هجومية شاملة. عبأت كل إمكانات الأمة في الداخل والخارج. عبأت معظم أساتذة الجامعات في كل الدول العظمى شرقا وغربا اليهود منهم وغير اليهود وبالفعل استطاعت تقييد فرص نجاح الثورة الطلابية لصالح شعب غزة في مختلف جامعات الغرب بخاصة. نعرف أنه يجري حاليا رغم التوقف المؤقت للقتال في لبنان وغزة فصل أساتذة جامعات قصروا في أداء واجبهم تجاه الهيمنة الصهيونية على الحياة السياسية داخل الجامعات.
***
لا شك أن إسرائيل، بحسن وكفاءة قيادتها لأمتها اليهودية عادت فأكدت خلال الشهور القليلة على ما كان دائما في نيتها وترسانتها من خطط وأفكار سياسية وعسكرية واقتصادية. الأمثلة عديدة ونعيش تردداتها العنيفة في يومنا هذا. كانت ما تزال دولة على طريق النشأة تقودها وتضع خططها ميليشيات إرهابية، حسب التوصيف البريطاني لها في ذلك الحين، وبقي الوصف أساسا لاستراتيجية هجومية شاملة تلتزمها أمة اليهود في كل مكان، وخلفت خططا وسياسات مشهودة:
أولها: التمسك بمبدأ التوسع باعتباره أقصر الطرق للدفاع.
ثانيها: الاستمرار في حفظ وتقديس خرائط التراث الديني والأساطير اليهودية كمستودع لا غنى عنه لتأكيد الشرعية لحكام إسرائيل ومختلف تياراتها السياسية. هذه الخرائط ليست فقط لتأكيد الشرعية ولكن أيضا لتعبئة جنود بني إسرائيل ولتنشئة أجيال نشأة عسكرية وسياسية وعلى أسس صهيونية.
ثالثها: التحالف المقام مع القوة الدولية الأقوى في حينها، إمبراطورية كانت أم جماعة بالغة الثراء والنفوذ. لذلك يصعب علينا الفصل “الهزلي أحيانا أو غالبا” بين أمريكا الوسيط لوقف إطلاق النار بين إسرائيل والفلسطينيين، وبين أمريكا الدولة الأعظم حامية الحقوق الإنسانية ورائدة الديموقراطية وحامية النظام الدولي والراهن والمهيمنة على أكثر تفاصيله، وبين أمريكا التي تزود جيش إسرائيل بالقنابل ثقيلة الوزن والفتك بالجملة بالفلسطينيين واللبنانيين واليمنيين في الحرب الهمجية الصهيونية التي تشنها إسرائيل ضمن هذه الاستراتيجية الهجومية الشاملة. فهمنا بطبيعة الحال أن هذه الحرب المتكررة والوحشية تبعث برسالة تذكير وتنبيه للدول العربية وغير العربية في الشرق الأوسط.
رابعها: إلى جانب الحماية الأمريكية المضمونة دائما أو على الأقل حتى الآن، قامت إسرائيل الدولة ودول غربية أخرى بتدريب فرق يهودية على أعمال الاستخبارات الخفية مثل التفنن في اغتيال مسئولين كبار وقادة عسكريين أجانب وعلماء طبيعة وبخاصة علماء الذرة في كافة أنحاء الشرق الأوسط. كادت هذه الفرق بفضل استخدام الغرب لها بين الحين الآخر وحمايته لها تحتل مكانة بارزة ومؤثرة في ميزان الاستراتيجية الكلية لإسرائيل.
خامسها: الاطمئنان لعدم المساس بها من جانب الأمم المتحدة ومؤسساتها اعتمادا على حق الفيتو للدول الغربية في مجلس الأمن وبخاصة الولايات المتحدة ونفوذها في مؤسسات التنظيم الدولي بشكل عام. بمعنى آخر تقوم الاستراتيجية الهجومية الإسرائيلية على قاعدة إهمال مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان مما يضيف إلى قواتها المسلحة قوة على قوة.
سادسها: التحالف عمليا مع القوى الأكثر ثراء في العالم الغربي مثل الشركات الأعظم في التكنولوجيا كما في الطاقة والعقارات والمصارف. فمن خلال تلك المصالح تستطيع أن تصل إلى قاعدة أوسع في الرأي العام وشراء ذمم المشرعين في بعض الدول الغربية. لم يمنعها هذا التحالف القوي من أن تتدخل في أنشطة القوى الليبرالية واليسارية وتنفذ داخل قياداتها، وهي التدخلات التي شهدت مؤخرا انحسارا ملحوظا ليس فقط في أدوار اليسار في دول الغرب ولكن أيضا في إسرائيل ذاتها.
ملاحظات واستنتاجات
النظر في المستقبل، وأعني مستقبل الدول العربية في ظل الاستراتيجية الهجومية الإسرائيلية، يفرض الحاجة إلى صراحة في التعامل مع قضية على هذا القدر من الخطورة والنوايا السيئة وأحيانا المدمرة. فيما يلي أعرض وبإيجاز لأهم ما يجب أن نخرج به من ملاحظات واستنتاجات حول حروب إسرائيل الثلاثة ضد غزة ولبنان وسوريا وما آلت إليه قرب توقفها.
أولا: نعرف أن كل دولة متقدمة وضعت لنفسها استراتيجية دفاع معلنة وملزمة ومتطورة مع حال الحرب والسلم في الإقليم الذي تعيش فيه وفي الحيز الحيوي من أمن البلاد. نلاحظ أن لا دولة واحدة في العالم العربي كبيرة أو صغيرة تبنت استراتيجية دفاعية أو هجومية شاملة أعلنت عنها والتزمت الوفاء بها أمام شعبها أو أمتها.
ثانيا: لم يعد سرا خفيا أو معلنا أن لدول كبرى ميليشيات محدد لها دور في استراتيجيتها غير المعلنة هجومية كانت أم دفاعية. أغلب هذه الميلشيات كما عهدناها لا تحمل اسم الدولة الراعية. نسمع عن فاجنر الروسية. ونما إلى علمنا في وقت من الأوقات معلومات عن ميليشيات أمريكية التدريب والتمويل كانت تعمل في نيكاراجوا وكولومبيا وشيلي وكوبا، وشائعات عن ميليشيات عملت أو تعمل في دول عربية وغير عربية أو ضدها ومنها سوريا والعراق وإيران وأفغانستان تتمول كما يشاع من مصادر أمريكية أو من حلف الأطلسي بطرق غير مباشرة.
ثالثا: قدمت فصائل مقاومة عربية في الآونة الأخيرة مثالا يستحق الاهتمام غير العاطفي من جانب المحللين وصناع الرأي العربي يعزز مقولة سادت وعادت تطل علينا وتلح بأنه صار من غير الممكن في الأجلين القصير كما الطويل تحقيق سلم حقيقي في فلسطين ولبنان ودول أخرى في الشرق الأوسط في غياب دور ملموس من المقاومة الوطنية المسلحة. ثبت أيضا من تجارب الماضي القريب أن إسرائيل لن تتكرم بعرض سلام عادل على أي جهة عربية أو القبول بعرض مماثل عليها إلا وجاء مصحوبا بمقاومة مسلحة.
رابعا: مطروح من جانب الغرب على من تبقى من العرب في خرائط الشرق الأوسط الجديد الاقتناع بفكرة ترويض إسرائيل لتصبح مقبولة. المقصود بالترويض هنا هو التطبيع. التطبيع في نهايته، حسب هذا المنطق، لا بد أن يجبر إسرائيل على الجنوح نحو السلم. هذه الفكرة لم تعمل حسابا للمواطن العربي كما هو واضح في الدول العربية التي تظن أنها بالتطبيع نجحت أو سوف تنجح في “ترويض” إسرائيل. أحداث الأيام الأخيرة وصداها في العالم العربي وموقف الغالبية العظمى من شعب إسرائيل وغالبية أعضاء الكنيسيت وجميع أحزاب إسرائيل خلال الأيام العصيبة الماضية يؤكد أن التطبيع لم يعالج أو حتى يمس بالرضا أو بالاعتدال أساسا واحدا من أسس الصراع مع إسرائيل. لا أرى تطبيعا أقوى من الاتفاق المبرم بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل حول إدارة الضفة الغربية، وفي ظله، كما نسمع، يقتلون الفلسطينيين في مخيماتهم ليل نهار.
***
إسرائيل تبقى وستبقى مشكلة العرب الأولى. لا يوجد حتى يومنا هذا دليل واحد يثبت لنا في عالمنا العربي أو في عالم الشرق الأوسط أن إسرائيل استبدلت، أو استعدت لاستبدال استراتيجية سلام عادل باستراتيجيتها الهجومية المباشرة، أو دليل يثبت أن التجارب العديدة في التطبيع نجحت في ترويض إسرائيل لتصبح دولة أو أمة ساعية أو مروجة لسلام عادل.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق