ضحك الفنان من فوق سريره بالمستشفى بعد عملية جراحية صعبة خطرة بالعمود الفقري، انتهت للأسف بالفشل كسابقاتها.
كان يروي لي ذكرياته عندما زرته في غرفة رعاية طبية، بدت خالية من الألوان خلال ربيع هذا العام 2024، عن كيف فصله نظام السادات بحلول فبراير شباط 1973 من العمل “بدار الهلال” ضمن 64 صحفيا بمختلف الصحف المصرية اعتبرهم معارضين شيوعيين ويساريين، فأبلغه حارس الدار على الباب بأنه ممنوع من الآن وصاعدا وللأبد من الدخول، وحتى ولو لجمع متعلقات شخصية من مكتبه.
وعاد وضحك بنفس الحرارة والعنفوان، وهو يحكي كيف ألحت قيادة مؤسسة “الأهرام” عليه خلال السنوات الأخيرة من عهد مبارك ليرسم لها كاريكاتيرا بانتظام. ثم سرعان ما توقفت عن النشر، مع تأويل لخطوطه وكلماته الساخرة بأنها تحمل “إسقاطا” يسيئ إلى ” ولي النعم”. وعندما أعود اليوم لمراجعة زملاء بالأهرام أجدهم يقولون بأن الفنان المتمرد دفع بكاريكاتير، وجد طريقه للنشر، يسخر من عبارة في خطاب “للريس”.
عند روايته للواقعتين، ضحك الفنان التشكيلي الصحفي الراحل حلمي التوني ملء شدقيه والضلوع، فأشفقت عليه من مزيد الألم. وانحدرت من عينيه دمعتان، فقلت لنفسي وأنا أقابله وأتعرف عليه وجها لوجه مباشرة كإنسان للمرة الأولى: يا الله.. كيف ننسى؟.
واليوم مع نبأ وفاته عن 90 عاما، استعيد عوالم أعماله في فن التصوير بلوحات مبهجة الألوان ورسومه بالصحف والمجلات وأغلفة كتبه. وكلها ظلت ذاكرتي البصرية تختزنها، كغيري لعشرات السنين، فأصبحنا نتعرف عليها من غير حاجة لمطالعة توقيعه.
كيف صنع انتشارا وشهرة؟
تتحدد مواقع أمثاله من الثائرين المتمردين في مصر وعالمنا العربي عادة على هامش الحياة، وبعيدا عن الأضواء. والكثير بينهم ماتوا ويموتون وسيموتون في صمت، دون أن يعلم بهم من هم أبعد من ذوي القربى والمعارف الشخصية.
لكن “التوني” كسر الحصار متمردا على مصير آلاف من خريجي كليات الفنون الجميلة العربية. ولعل كلمة السر هنا كونه ممن مزجوا بين الصحافة وحروف كلماتها وبين فن الرسم بالألوان والأشكال. كما ارتبط عند الناس بأغلفة الكتب حيث قرأوا إفكار وإبداعات مفكرين وأدباء على مدى نحو نصف قرن من الثقافة العربية.
ولذا أصبح في عيون جمهور أكبر بكثير من مرتادي قاعات معارض الفنون التشكيلية، واستقر في الوجدان الجماعي لمن يقرأون بالعربية. وهذا قبل أن يتوج باعترافات وجوائز عالمية، ويرسم ملصقات ومطبوعات لمنظمات دولية “كاليونيسف”.
داخل المؤسسة وخارجها
المتأمل لمسيرة الفنان الراحل الحافلة في عالم الصحافة، وبالأخص الصحافة الثقافية العربية، يمكنه ملاحظة هذا الجمع المدهش بين العمل من داخل المؤسسة وخارجها.
استأنف إبداعه بمؤسسة “دار الهلال”، وظل يطبع إلى وقت قريب بصمته الفنية المتميزة فوق أغلفة مجلاتها وكتبها ورواياتها الشهرية، والتي كانت في زمن غير هذا الزمان تطبع بالآلاف، وتصل إلى قارئها بمشارق العالم العربي ومغاربه.
وكان بين أعمدة تجربة مجلة “وجهات نظر” الصادرة من دار الشروق بالقاهرة اعتبار من 1999 ولنحو 12 سنة. وأعطاها من روحه وفنه شخصيتها البصرية التي كانت تظهر في أغلفتها كل شهر أو بصفحاتها الداخلية، فتعالج ما بدا جفاف مادة جادة رصينة. وتقديرا لتاريخه المهني ولإسهامه، أعطته المجلة منصبا قياديا غير شائع في صحافتنا بعد: رئيس التحرير الفني.
ويلفت النظر كيف أسهم ورعى لسنوات مجلات ودوريات ثقافية غير منتظمة الصدور. ولم يستصغر أن يضع اسمه بترويسة هذه أو تلك مستشارا فنيا، ولو كان بعضها أقرب إلى مغامرات الهواة في نظر الصحفيين والكتاب المحترفين.
المرحلة البيروتية
يحلو لنقاد الفن والأدب أن يصنفوا الأعمال الإبداعية وفق مراحل، يطلقون عليها من الأوصاف ما يميزها أو تتميز به. وأمام مسيرة فناننا الراحل لابد من التوقف عند “مرحلته البيروتية”، حيث أقام بلبنان واشتغل مع صحافتها، وفي مشروعات نشر للكتاب والمجلات لنحو 13 عاما. وهذا وفق ما أبلغني به، وعلى خلاف الشائع بأنه أقام لثلاث سنوات فقط.
إلى تلك السنوات، التي بدأت مع مغادرته مصر مطلع السبعينيات بعد منعه من العمل بالصحافة والمشاركة في معارض الفن التشكيلي ولو بالمدن المصرية البعيدة عن القاهرة والإسكندرية، توج حضوره وتألقه خارج المحروسة سريعا بتجربته مع تأسيس جريدة “السفير” 1974.
وتحفظ أرشيفات الجريدة مقالا لصاحبها ورئيس تحريرها الراحل طلال سلمان عند توقفها واحتجابها في 4 يناير كانون الثاني 2017 بعنوان: “حلمي التوني جاءنا على جناح حمامة السفير”. ويعبر هذا المقال عن ذروة في امتزاج خبرات الصحفيين اللبنانيين والمصريين، وحيث منح التوني “السفير” شخصيتها اخراجيا، وسماتها الفنية البصرية الأساسية التي استمرت معها.
كما ابتكر شعارها “الحمامة البرتقالية الدائرية”. ويروى سلمان شرح فناننا الراحل لأسرة تحرير الجريدة عند تقديمه الشعار قبل إصدار عددها الأول:”الحمام الزاجل يصل إلى المتحابين، ولونها البرتقالي يرمز إلى برتقال يافا”.
وفي هذا ما يسمح لنا اليوم بإعادة اكتشاف كيف نهل التوني من الثقافة العربية؟ وهذا بالطبع إلى جانب أعماله المستلهمة من التراث الشعبي المصري القديم والقبطي والإسلامي والمعاصر، مع تأثره بالمدرسة السريالية الأوروبية. فضلا عن إثراء متبادل بين فن الكاريكاتير الصحفي ولوحاته في التصوير بالزيت وملامح شخصياتها.
كما يحيل تصميمه لشعار “السفير” باستلهام برتقال يافا إلى كيف كانت فلسطين شعبا وقضية في وجدان فناننا الراحل، وتتقدم أولويات اهتمامه وشواغله. ولذا لم أندهش عندما استمعت من صقر أبو فخر الكاتب والباحث الفلسطيني المخضرم المقيم في بيروت، بمناسبة شهادته عن المصريين الذين عملوا بصحافة لبنان، عن دور التوني في تصميم أغلفة ملحق فلسطين الشهير بجريدة “السفير”، وعن علاقته بفنان الكاريكاتير الراحل ناجي العلي. كما لا يمكن نسيان دوره المقدر المعلوم في رسوم وإخراج كتب “دار الفتى العربي” الفلسطينية.
مع رحيله يواجهنا السؤال: وهل في مصر اليوم فنانون تشكيليون صحفيون مثله ومحيي الدين اللباد وحجازي، وغيرهم ممن استطاعوا تجاوز حدود الأقطار، كي يترقب أعمالهم قراء العربية في كل مكان؟
وأليس في غياب من يضاهي هؤلاء حضورا بامتداد عالمنا العربي مفارقة وتناقض مع عصر الإنترنت ووسائل الإعلام، التي تعبر كل الحدود والمسافات بدون حاجة لجواز وتذكرة سفر أو تأشيرة رقيب بالدخول والتوزيع.
بدأت هذا المقال باستدعاء لحظات ضحك تسخر من بؤس ملاحقة الصحافة والإبداع بالحرمان من العمل والمنع من النشر. وبالطبع هناك ما هو أسوأ وأشد قسوة أمس ولليوم.
ولعل نبأ رحيل حلمي التوني ينبه إلى مصير كل منع وحرمان وإجبار خلق الله على الصمت أو مغادرة الأوطان. وكل مر يمر كما يقال، وسنعود يوما ما لنسخر من هذه المحن. تماما كما فعل هو على سرير الجراحة والألم.
تنشر بالتزامن مع موقع الجزيرة مباشر