يتجرّع اللبنانيون، هذه الأيام، وعبر المصاعب التي تؤخر تشكيل الحكومةالتي أُعطي رئيسها المكلف ما لم يعط غيره في أي زمان ومكان، بعض مرارات الانتخابات النيابية بنتائجها التي أسهمت في تقنين تقسيم البلاد إلى كانتونات طائفية، بدل أن تأخذها إلى التوحد.. بالديموقراطية!
فالطائفيات لا تبني دولاً. إنها تدمر دولاً، فكيف بنقيض الدولة تبني الدولة؟!
لقد انحدر النقاش (والعمل) قبل الانتخابات، ثم خلالها، من السياسي إلى الطائفي، ثم واصل انحداره حتى اليوم مع محاولات تشكيل الحكومة إلى «المذهبي»..
صار الحديث عن الحكومة أشبه بترسيم الحدود عبر الحقائب بين كانتونات الطوائف والمذاهب..
ويتبدى الآن بوضوح انه سيكون للحكومة العتيدة متى قامت سياسات وليس سياسة واحدة بالاتفاق الواضح والصريح على برنامج محدد، أو بالتراضي، وهذا أضعف الايمان.
تقول الإذاعات، أرضية وفضائية، وتكتب الصحف بلا وجل ان لكل طائفة سياساتها، وأن هذا يستدعي ان تكون لها وزاراتها، وبالتالي فأهم ما يمكن اجتراحه من المعجزات في هذا المجال أن يتم التوافق على تحاشي التصادم بين أطرافها وليس مثلاً على المواجهة المشتركة للمخاطر والمسؤوليات الثقيلة التي ستفرض نفسها على الحكومة الوليدة، وبعضها قد أطل قبل التشكيل مذكراً بما لا يجوز نسيانه من حقائق الحياة، أي التاريخ والجغرافيا والمصالح.
يجلس جهابذة السياسات اللبنانية في شاشات التلفزيون ويقدمون شروحاً مستفيضة عن الحصص في الحكومة باعتبارها حقوقاً كونفدرالية للطوائف… فهل يمكن التوافق على سياسة موحدة لائتلاف الكونفدراليات المختلفة على هوية البلاد وسياسات حكومتها التي ستجمع الماء والنار في سلة واحدة مفتوحة القعر بالوصاية الدولية؟
كلما تم التسليم بشرعية الكونفدراليات الطائفية المذهبية، وبحقوقها في رسم «سياستها» اتسع المجال لمزيد من الوصاية الدولية، وخسرت الحكومة قرارها المستقل، بل حقها في هذا القرار.
…
كيف ستكون حكومة واحدة بقرار موحد تلك التي عدليتها مارونية (تحولت، فجأة إلى أرثوذكسية) وخارجيتها شيعية، وداخليتها درزية وماليتها سنية وزراعتها كاثوليكية… وقد تكون التربية، مثلاً، للأرمن الكاثوليك، أو للأقليات، تحقيقاً للتوازن في كانتونات الحكم (في انتظار معرفة الحصة التي سيختارها رئيس الجمهورية حتى يكون شريكاً في القرار لا شاهد زور؟!).
للمنفي حقوقه في التعويض عن الغياب القسري، مع الاعتذار،
أبسط التعويض ان يكون له حق الفيتو (النقض).
وللخارج من سجنه غداً حق النقض، بغض النظر عن عدد نوابه، فالتعويض يجب ان يكون عادلاً ومتناسباً مع ظلم السجن وظلامه.
هناك، إذاً، ستة أو سبعة أو ثمانية أطراف لهم حق النقض، فكيف يكون الحكم، وكيف يمكن ان تعمل حكومة لم يتفق المشاركون فيها على الثوابت الوطنية؟!
هذا قبل ان نصل إلى برنامج الحكومة للاصلاح المالي والإداري ولمواجهة أعباء الدين العام، ومعضلات الأزمة الاجتماعية المفتوحة على الخطر..
* * *
غداً سيبتدع العباقرة اللبنانيون أنصاف حلول أو أرباع حلول لمشكلات الاختلاف على الثوابت، بحيث يصاغ البيان الوزاري بعبارات حمّالة أوجه، يمكن ان يكون لها بالانكليزية معنى غيره بالفرنسية، أما بالعربية فالصياغة ستكون فتحاً جديداً في علم الكلام، فكل من يقرأه يفهم منه ما يرغب في فهمه.. في انتظار ان يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
…
وما كشفته المشاورات أخطر من ان يتم تجاوزه بالمساومة على أعداد الوزارات أو نوعية حقائبها.
إن الكذبة المضخمة التي تبدت في الاستشارات فأعطت الأصوات للرئيس المكلف لم تتأخر عن الانكشاف: فلا أحد يريد ان يقبع في موقع المتهم بأنه خارج على «الوحدة الوطنية»…
الآن، وبعد أشهر طويلة من الاستشارات واللقاءات والاجتماعات السرية والعلنية، والمفاوضات المضنية، تفرض الفظائع التي شهدتها الانتخابات نفسها كظل أسود على الحكومة العتيدة، فإذا هي مشروع توافق هش على فيدرالية للطوائف لا هي تستطيع مواجهة الخارج ولا الاندفاع للاصلاح المنشود في الداخل..
هل نلجأ إلى التعويذة اللبنانية التقليدية: ليس بالإمكان أبدع مما كان؟
هل نكتفي بالتشكي من طبيعة هذا «البلد العجيب» الذي يتبدى شعبه وكأنه الأعظم تسيساً في المنطقة العربية ثم عند أول منحنى تختفي السياسة من حياته العامة لتبرز المتاريس الطائفية والمذهبية باعتبارها «الأحزاب» الفعلية، وباعتبار «حقوقها» في الحكم هي أساس الحكم فإن تم المس بها اهتز الحكم كله وتهدده السقوط؟
أم نطرح للنقاش المعادلات المستحيلة الآتية:
لا بد من حكومة قوية لإنهاء «النظام الأمني» والتمهيد، ربما، لإسقاط التمديد.. (هكذا يقول بعض اقطاب المعارضة)..
لكن الشركاء الكبار والضروريين في مثل هذه الحكومة لهم توقيتهم الخاص لاسقاط رئيس الجمهورية، وهم الآن يحمونه بصدورهم لأن سقوطه لو حصل لن يكون في صالحهم.
ثم إنه لا بد من حكومة وحدة وطنية… لكن كونفدرالية الطوائف لا تحقق دولة قوية، ولا هي تمكن من تدعيم الوحدة الوطنية. إذاً فلترجأ الوحدة الوطنية، ولنكتف الآن بحكومة يتلاقى فيها ممثلو الطوائف المختلفون في اتجاهاتهم السياسية، المتوافقون على ان تقوم في البلاد حكومة.
كذلك فلا بد من التعامل مع الشرعية الدولية وقراراتها… وأنصار الشرعية الدولية كثيرون، لكنهم إذا ما تكتلوا قد يذهبون بالشرعية الداخلية للحكم وحكومته. إذاً فلا بد من حكومة شرعية تبتدع صيغة لبنانية عبقرية للشرعية الدولية وإلا أسقطت أحداهما الأخرى، أو أسقطت كلاهما الحكم..
البحر من أمامكم والعدو من خلفكم، فأين المفر؟!
اعتمدوا على العبقرية اللبنانية، وتواضعوا في تمنياتكم!
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 11 تموز 2005