بين من أسعدني زماني بلقائهم في أول زيارة لإيران، بعد انتصار الثورة وعودة الامام روح الله الموسوي الخميني منتصراً إلى طهران، كان اصلب سجين في العالم: الامام الطالقاني.
كان الامام الطالقاني صلباً في مطالبته بالتغيير، وكان جمهوره يتعاظم في الشارع الايراني حتى غدا زعيماً شعبياً كبيراً.. ولقد خافت سلطات الشاه من هذا الشيخ نحيف البنيان، هامس الصوت، صلب الارادة، ولم تتوقف نشاطاته بانقلاب 1953 العسكري، الذي أطاح برئيس الوزراء محمد مصدق وأعاد تنصيب الشاه ليكون القوة المهيمنة على السياسات الإيرانية. فبعد حل الحركة الوطنية بأحزابها من قبل الشاه في منتصف الخمسينيات، قام السيد طالقاني بتأسيس حركة المقاومة الإيرانية عام 1957، مما أدى إلي تعرضه للسجن في احد سجون سافاك. في ظاهر طهران، في زنزانة انفرادية لا تدخلها الشمس… واخضعته السلطة لبرنامج تعذيب عظيم القسوة، أبشع ما فيه انهم جاءوا ببعض بناته، وتناوب عليهن الجنود الشاهنشاهيون مغتصبين امام عينيه، مما أدمى قلبه وكرامته… ولكنه صمد امام هول الكارثة، وظل على موقفه الصلب من الشاه وحكمه الدكتاتوري.
ولقد اكرمني الامام الطالقاني فاستقبلني، في محبسه، قبيل اطلاق سراحه وعودته مكرماً إلى جمهوره وأهله الذين كانوا يملأون شوارع طهران والمدن الايرانية الأخرى، وهم يحملون إلى جانب صورة الامام الخميني صوراً لهذا الشيخ المتوج بطلاً شعبياً عظيماً، تروى حكايات صموده الاسطوري، برغم تقدمه في السن، وكبريائه الجريح وأبوته وعمامته التي اراد الحكم الشاهنشاهي تلطيخها لكن صاحبها المجاهد صبر وتجلد لمدة 14 عاماً، حتى تفجرت ايران بالثورة فأنصفته وأعادت اليه الاعتبار الذي لم يستطع الجلادون المس به وظلت كرامته امنع من يطاولها ظلم دكتاتورية الشاه.. وحليفه الاسرائيلي.
عن الطالقاني والثورة
في العام ١٩٤٤، أسّس محمود الطالقاني مع محمد مطهري وعلي شريعتي “حركة عباد الله الاشتراكيّين” التي تقول بأنّ الإسلام عقيدة عالميّة، قادرة على تقديم أجوبة لكلّ قضايا الشعوب المضطهدة. وقد ارتكزت عقيدتها على الاشتراكيّة بما هي نظام اقتصاديّ ينافح عن العدالة الاجتماعيّة والتوحيد في الفلسفة. وأبرز مقولات الحركة أنّ إلغاء الملكيّة الفرديّة لوسائل الإنتاج هو أسرع طريق لوأد الاستغلال والفقر والحرمان. وقد جهرت الحركة بخلافها مع الماركسيّين بسبب نزعتهم الماديّة في الفكر وإن كانت تستدرك بأنّهم مثاليّون في الأخلاق (على راحنيمه، طوباوي إسلامي: سيرة سياسيّة لعلي شريعتي، لندن) وكان الطالقاني قد كتب مقالة بعنوان “الإسلام والمُلكية” دافع فيها عن فكرة الملكيّة الجماعيّة على أنّها بمثابة ركن من أركان الدين في الإسلام. ومن مؤلّفاته في تلك الفترة أنّه أعاد نشر كتاب “تنبیه الأمّة وتنزیه الملّة” لآية الله نائيني، مع تقديم وتعليقات. وآية الله نائیني من قادة ثورة العشرین في العراق ومن منظّري الثورة الدستوریّة في إیران. ویعدّ کتابه أوّل وثیقة فقهیّة في الدفاع عن الدولة الدستوريّة وخوض الصراع الفکري والفقهي ضدّ المراجع الدینیّة المؤیدة للاستبداد وعلی رأسهم الشیخ فضل الله نوري. وأغلب المدافعين عن ولایة الفقیه في إیران الآن هم من أنصار هذا الأخير.
ومع انتصار الثورة الدستوريّة كثّف الإمام الطالقاني نشاطه من أجل نشر “إسلام آخر” یؤیّد الديمقراطیّة والحرکة الوطنیّة، ودعا إلى التمسّك باستقلال إيران وحقّها في تقرير المصير وفي اعتماد سياسة عدم الانحياز التي ينتهجها جمال عبد الناصر ونهرو وسوكارنو وغيرهم. وأيّد بحماسة تأميم النفط، وقال “لا نريد النفط لنجوع، ولكن لكي نعيش مستقلّين أحراراً”. وقد أسّس مع الدکتور سحابي والمهندس مهدي بازرکان حركة “نهضة الحريّة”.
وبعد الانقلاب الأميركيّ الذي أعاد الشاه واستشراس الحكم الفرديّ الديكتاتوريّ وجهاز السافاك الرهيب، مال الطالقاني إلى الاعتقاد بأنّه لا بدّ من العمل المسلّح لإسقاط النظام. ولمّا انتقل قسم شباب “نهضة الحريّة” إلى خيار حمل السلاح العام ١٩٧٠ وتشكّلت منهم “منظّمة مجاهدي الشعب”، رعاهم وكان بينهم العديد من تلامذته. وكان الطالقاني شديد الإعجاب بماو تسي تونغ وفيديل كاسترو. ويروي علي شريعتي عنه هذه النادرة: ذات مرّة سأله أحد الطلبة عن رأيه بعمليّة مسلّحة في قرية سياحكال ضدّ مركز للدرك في تموز/ يوليو ١٩٧٠. أعلنت العمليّة بداية الكفاح المسلّح لإسقاط نظام الشاه، وانبثقت منها منظّمة “فدائيّي شعب إيران” الماركسيّة اللينينيّة، أجابه شريعتي بنادرة قال: “في طريقه إلى المنفى قضى الإمام الطالقاني ليلته في مشهد. خلال إقامته القصيرة تلك، سئل عن رأيه في ما إذا كان فيديل كاسترو سوف يذهب إلى الجنّة أم إلى النار. أجاب طالقاني على السائل الفضوليّ: إن لم يصعد كاسترو إلى الجنّة، فكيف لكائن هزيل مثلك أن يصعد إليها؟ وما إن روى شريعتي النادرة، حتى غادر المكان”. (راحنيمه، ٢٦٢)
كان منفاه في بلوشستان ثمّ في كرمان قبل أن يُعتقل العام ١٩٧٥ ويبقى في السجن إلى حين انتصار الثورة الإسلاميّة. خلالها أعلن الطالقاني تأييده لحركة الإمام الخيمني. ولمّا خرج من السجن بدأ التعاون بينه وبين آية الله خميني الذي لَقّبه بـ”أبي ذرّ زمانه” وكلّفه بأن يؤمّ صلاة الجمعة في طهران ودعاه إلى ترؤس “مجلس قيادة الثورة الإسلاميّة” السري. ولمّا تشكّلت حكومة مهدي بازركان تولّى الطالقاني منصب نائب رئيس الوزراء فيها. وانتخب الطالقاني نائباً عن طهران في مجلس الخبراء الأوّل. وتولّى مهمّات حسّاسة عدة خلال تلك الأشهر الحاسمة، منها التفاوض مع الحركة الكرديّة، والوساطة مع “منظّمة مجاهدي الشعب”. بدأ الخلاف بينهما في نيسان/ أبريل ١٩٧٩ حول موضوع ولاية الفقيه وقضايا الأقليّات والقضيّة الكرديّة وحقوق المرأة خصوصاً. لكنّ محور الخلاف دار مدار طبيعة السلطة، فقد عارض الطالقاني ولاية الفقيه واقترح صيغة للحكم تقوم على سلطة المجالس الشعبيّة تشارك فيها كلّ القوى التي شاركت في الثورة. خلال ذلك، اعتقل حرّاس الثورة ولديه بتهمة الشيوعيّة والانتماء إلى “منظّمة مجاهدي الشعب”. خلفه آيه الله منتظري في رئاسة مجلس قيادة الثورة وليس معروفاً ما إذا كان استقال من ذاك المنصب أو أقيل.
توفّي الإمام محمود الطالقاني في ظروف غامضة في طهران في ٩ سبتمبر/ أيلول ١٩٧٩ ودفن في مقبرة بهشتي زهراء.