بدأت يومي هذا الصباح بمتابعة سريعة لأحداث المساء والليل كما يرويها أصحابها كتابة أو خطابة. تقرر لي فيما يبدو أن أستمع إلى ما قالته خلال المساء السيدة جورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا في مؤتمر للنشطاء الفاشيين في الحزب الذي تقوده. لا أخفيكم القول إن اهتمامي بها وبحكاياتها وحزبها يعود إلى أيام عزيزة وغالية.
***
وصلت مطار روما القديم في شامبينو لأول مرة في صيف عام 1959 ومنه توجهت إلى السفارة المصرية لموعد محدد سلفا مع السفير. الدخول إلى السفارة في ذلك الوقت كان يكتسى بمشاعر كتلك التي يشعر بها الداخل إلى الحدائق المحيطة بالمعابد البوذية أو القصور التاريخية القديمة. بدت الحدائق ممتدة حتى آفاق البصر وفي وسطها وقف قصر أومبرتو الثاني آخر ملوك إيطاليا شاهدا على عظمة التاريخ وهيبته ومكانته عند الإيطاليين وعند المصريين الذين قرروا استئجار القصر وتحويله إلى سفارة للمملكة المصرية لدى الجمهورية الإيطالية، مكاتبها مع سكن السفير في مبنى واحد.
***
كان مقدرا لي وأنا أخطو أول خطوة داخل القصر، أقصد مكاتب السفارة، أنني، أنا نفسي، سوف أكون أحد الشهود على حق التاريخ في التعظيم والاحترام ومنحه الهيبة اللازمة والالتزام بحمايته من عبث العابثين وأطماع السياسيين وجهل المتخصصين من المهندسين والمخططين بقيمته وقيمه. توقعت، وصدق توقعي، أن يطلب مني السفير رجب الإحاطة بالقدر اللازم من المعلومات عن التاريخ القديم لإيطاليا. قال، بعد أن سمح لي بإلقاء نظرات متأنية على تفاصيل غرفة مكتبه وكانت قبل ثلاثة عشر عاما مكتبا لملك إيطاليا، إنه استدعاني ليكلفني التفرغ كلية لمهمة متابعة تطورات السياسة الداخلية وبخاصة كل ما يتعلق بالأحزاب السياسية والبرلمان والنقابات. لذلك، كما أضاف، فهو يقترح أن أهتم بتفاصيل التاريخ لأن السياسيين الإيطاليين مغرمون به وبالحديث عنه.
***
عملت باقتراح السفير وبتكليفه. لم تمض أيام إلا وكنت مدعوا كمراقب لحضور اجتماع للحزب الحاكم وأيام أخرى وكنت ضيفا على مؤتمر لشباب الحزب الفاشي، وهو الحزب مع الحزب الشيوعي، كلاهما سمحت لهما الولايات المتحدة بالاستمرار في العمل بعد استسلام إيطاليا وتغيير الدستور وإقامة نظام ديموقراطي. أعترف بأن المتعة الناجمة عن هذا التكليف كانت مزدوجة، فمن ناحية جعلتني أندمج بسرعة في الحياة الإيطالية على مستويات متعددة، ومن ناحية أخرى سمحت لي بالتعرف على إيطاليا إنسانيا وتاريخا ومجتمعا..
***
هذه المقدمة المطولة أكتبها عن أيام في نهاية خمسينيات القرن الماضي، أي في أحد أهم عقود تكويني. أجزم على كل حال أن جورجيا، الرئيسة الحالية لحكومة إيطاليا، لم تحضر الاجتماعات الشبابية التي حضرتها في الحزب الفاشي لأنها لم تكن ولدت بعد. أخمن أن تكون جورجيا حضرت بعد ثلاثين عاما أو أقل قليلا اجتماعات مماثلة وربما قادت مؤسسة أو تنظيمات للشبيبة من ذوي الميول القومية، وأكثرهم، في وقتي، كان يحمل بغضا شديدا للولايات المتحدة ولحلف الأطلسي ولكل السياسيين الإيطاليين الذين سمحوا لتصبح إيطاليا دولة من الدرجة الثانية.
***
طفت إيطاليا في صحبة قادة أحزابها ونقاباتها وأصدقاء وأقرباء، طفتها أو قل معظم مقاطعاتها وبالتحديد أهم مدنها خلال السنوات الثلاثة التي قضيتها هناك. مررت كثيرا في رحلاتي الإيطالية بمدينة سيينا الواقعة شمال روما وعلى الطريق الواصل إلى شمال إيطاليا. كتبت في مكان أو موقع ما عن هذه المدينة قلت على ما أذكر إنها المدينة تقترب فكرتها من فكرة المسئول المصري الذي قرر وحده على ما أظن إحياء شارع المعز لدين الله في قاهرة نجيب محفوظ، فكرة الشارع أو المدينة التي يدخلها الزائر، سائحا كان أم مواطنا، ليقضي مع التاريخ ردحا من الزمن يعرف أنه لن يقضي مثله في مكان آخر، ويخرج منها معترفا بوفاء شعبه لوطنه وأجداده وحضارته. مشيت في شوارع مرصوفة بأحجار جرانيتية أو بازلتية، تجزم أنها من صنع ورصف الرومان الأوائل. مشيت في مثلها، أي مثل هذه الشوارع، في حي أو أكثر من أحياء روما الرومانية ومنها طريق أوراليا الموصل الأهم لروما القديمة بميناء جنوة في شمال إيطاليا ومن جنوة شمالا إلى بحيرة كومو ومنها إلى لوجانو عاصمة سويسرا الإيطالية. أو من جنوة غربا إلى الريفييرا الفرنسية مرورا بريفييرا الزهور الإيطالية.
***
عشت حياتي من بعد الفترة الإيطالية أنصح من أعرف ومن لا أعرف بأن لا تفوته زيارة فلورنسا إن وطأت قدماه أرض إيطاليا. هي مدينة على الطريق، بمعنى أنك لا بد مار بها إن كان مقصدك فرنسا أو سويسرا أو النمسا أو دول البلقان المتاخمة لميناء تريستا، وكل أوروبا وراء كل هذه الدول.
هناك في فلورنسا كما في روما يجتمع التاريخ ويتجدد ويعيش. عبقرية الإيطاليين تكمن حسب رأيي في أنهم شعب وقيادات سياسية رفضوا أن يجمدوا التاريخ في متاحف وأحجار ومسلات وأهرامات وأعمدة معابد وقصص أحيانا مبتكرة يرويها المرشدون ونظريات ومواقف يبشر بها دعاة وقادة إفتاء في التاريخ، بل جعلوه، وأقصد التاريخ، طرفا حيا في حياتهم يسكنون فيه ويسكن فيهم. رفضوا أن يخضعوا التاريخ لكهنة يعيشون كل داخل محراب مصالحه الشخصية، أو يخضعوه لقرارات وزارية أو بيروقراطية تهتم بموقع في عهد وتهمله في عهد يليه. جعلوه ملكا للبشرية أينما حلت أو سكنت وليس حكرا ولا وقفا ولا تركة تورث لوزارة ثم لأخرى أو لسياسي ثم لآخر أو لمجموعة مصالح ثم أخرى.
***
للتاريخ والرحلات معا حكايات تستحق أن تروى وتدرّس.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق