كان حفلا مهيبا. انتهى وزراء الدفاع في دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) من اجتماعاتهم وسط اهتمام إعلامي ضعيف واستقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السكرتير العام للحلف محفوفا بفضول إعلامي محسوس واشتركت الغالبية العظمي من المشرعين الأمريكيين في حفل لتكريم الحلف بمناسبة بلوغه السبعين لم يشهد الكابيتول هيل مثيلا له إلا في حالات نادرة. كان واضحا أن هناك من تعمد أن يكون الحفل مبهرا والاستقبال دافئا والحضور متنوعا. ترامب خرج عن عادته ليعلن دعم أمريكا للحلف وألقى السكرتير العام للحلف بخطاب صيغ بإتقان ليؤكد بدوره حرص الحلف على مصالح أمريكا واستعداده لتجديد قدراته وتوسيع مجالات عمله والتزام أعضائه زيادة مساهماتهم المادية تخفيفا للعبء الواقع على الولايات المتحدة.
قامت الأطراف بأداء الدور المطلوب من كل طرف على أحسن وجه. كانت الرسالة الموجهة من الأمانة العامة للحلف ومن القيادة العسكرية الأمريكية أن كل شئ على ما يرام بل وإلى الأحسن في إدارة مهام الحلف الأطلسي والتزام الأعضاء به. فالشكوك كانت كثيرة. والدوافع وراء الشكوك وفيرة. ولا شك أن الأجواء المحيطة بالحلف أثرت في صنع انطباعات المتابعين والمراقبين. أنا شخصيا خرجت من مشاهدة ومتابعة لقاءات واشنطن وحفلها المهيب وقد زدت قناعة بأن مؤسسات في واشنطن وسكرتارية الحلف عملت الكثير للتعمية على جوانب في الحلف كانت غامضة وبقيت بالفعل غامضة. بل أظن أن ما اكتست به الاحتفالات والاجتماعات من حماسة مصطنعة أكدت شكوكا وربما أثارت مخاوف جديدة.
عرض السكرتير العام للحلف على المستمعين من المتشككين الأمريكيين بعضا من إنجازات حققها الحلف في السنوات الأخيرة. قال أن لاتفيا، وهي من أقرب المواقع الأوروبية إلى قلب روسيا، تستعد الآن لاستقبال وحدة عسكرية تقيم دائما على أراضيها لحماية كل دول البلطيق من أي اعتداء مصدره روسيا، “خصم أوروبا اللدود والدائم”. السكرتير العام يعتبر أنه بهذه الخطوة وحدها تأكد أن الحلف ما زال يتقدم، والدليل الآخر هو أن دولا في الشرق الأوسط تطالب بالسماح لها أن تنضم للحلف، وتسعى دائما لإقناع المسؤولين فيه بوضع قوات عسكرية على أراضيها. قيل أيضا في معرض الحديث عن تقدم الحلف قراره إقامة قاعدة دائمة في موقع بالقطب الشمالي. كذلك كانت الإشادة المبالغ فيها بانضمام مقدونيا عضوا جديدا ونية الحلف الاستمرار في دعم قواته في العراق “للتصدي لفلول داعش إن حاولت إعادة تنظيم صفوفها من جديد” تنويعات على النغمة نفسها.. ولكي يسعد أنصار الحلف من الأمريكيين جرى إبلاغهم أن ميزانية الحلف بدأت تتحسن منذ أن أقبل أعضاء على زيادة مساهماتهم المالية، لا شك أنه كان لإبلاغ الرئيس الأمريكي بهذا التطور وقعا جيدا لولا أن تغريدة له أحبطت آمال السكرتير العام. كان الرئيس قد توقع إبلاغه فغرد بكلمات مفادها أنه ينوي الطلب إلى الأعضاء في الحلف زيادة أنصبتهم من 2 %، وأغلبهم لا يسددونها إلى 4%.
في زحمة الاحتفال بالعيد السبعين للحلف انخفضت كثيرا إشارات المسؤولين الأوروبيين إلى مشكلات الحلف والعقبات التي تقف في طريقه. تؤكد الوقائع وتطورات الأمور في أوروبا والشرق الأوسط وصعود الصين وغيرها أن العقبات على طريق حلف الناتو صارت أكثر وليس أقل بل أن بعضها يمس قواعد ومبادئ تتصل بوجود الحلف من أساسه. مثال على ذلك مسألة عودة المشاعر والانتماءات القومية إلى ما يقترب جدا من سابق عهدها في القرن التاسع عشر. نعرف أن الحلف ما كان ليقوم لو أن الدول الأوروبية الخارجة لتوها من حرب عالمية طاحنة تمسكت بأولوياتها القومية ورفضت التنازل عن شئ أو جزء من سيادتها القومية لتصير عضوا فاعلا في الحلف. هناك دول تنازلت عن حقها في ترتيب أولوياتها الأمنية لصالح اختيار روسيا عدوا أوحد للحلف وسببا لوجوده ومبررا أعظم لعضويتها فيه. أكثر هذه الدول تعيش هذه الأيام في ظل تطورات فرضت عليها تبديل أولوياتها الدفاعية. روسيا بالتأكيد ليست العدو الأول بقدر ما هو الهجرة من إفريقيا ودول الشرق الأوسط وأفغانستان. هذا الاختلاف في ترتيب الأولويات القومية مضاف إليه صعود التطرف القومي أعاد إلى الذاكرة تاريخ اللحظات السوداء في التاريخ السياسي لأوروبا.
هناك خلافات حقيقية وبعضها جذري المنشأ بين دول الجنوب الأوروبي ودول شماله. المصالح الأمنية ليست واحدة. الجنوب تهدده بشكل رئيس الهجرات الواردة من البحر المتوسط أما دول الشمال فيظل هاجسها الأول روسيا. هنا وهناك نشأت وتزداد قوة وشعبية التيارات السياسية اليمينية، أكثرها يميل إلى روسيا وفي الوقت نفسه تدعمه تيارات وأجهزة “ترامبوية” وأمريكية، بمعنى آخر تعمل الآن بالتوافق والتنسيق قوى سياسية مدفوعة أو مدعومة من جهات في روسيا وأمريكا في وقت واحد ومجتمعة على هدف التمرد على حلف الناتو وإضعافه وإخراجه إن أمكن من المعادلة الأمنية العالمية.
أعضاء الناتو مختلفون حول ترتيب أولوياتهم الأمنية وهو الأمر المنافي لأبسط قواعد التحالفات. هم أيضا مختلفون حول انتماءاتهم الأيديولوجية، رغم أن الانتماء الأيديولوجي لقيم الحلف كان شرطا وقيدا والتزاما عدما نشأ في إبريل من عام 1949. كانت في صدارة الانتماءات الديمقراطية وكانت الليبرالية وكلاهما الآن منحسر أو مهدد تحت ضغط القوميات العائدة وزحف التطرف والتعصب العنصري خاصة والمعادي للإسلام بشكل خاص. انبثقت حتى هيمنت في مواقع أوروبية متعددة أمزجة حكم شعبوية اختلط فيها اليساري باليميني في ائتلافات غريبة المنشأ والممارسة، وكلها رافضة أن تخضع في الأمن والعلاقات الخارجية لقيادة أجنبية مثل قيادة الناتو. إيطاليا نموذج صارخ وقابل للانتشار وفي المجر وبلغاريا وبولندا استعداد طبيعي لاقتباس النموذج، أو أي نموذج آخر قريب الشبه جدا بالشعبويات وأقصد مثالا على ذلك ظاهرة انتشار نموذج الحكم بالرجال الأقوياء. نعرف أن الظاهرة قديمة قدم نشأة المجتمع السياسي ولكن ما لم نعهده ويفاجئنا الآن هو أن هذه الظاهرة ولدت لنفسها نوعا من الأيديولوجية، أي مجموعة متناسقة من الأفكار والمبادئ وقواعد العمل تروج لها في مجتمعاتها وخارجها، أي في داخل المجتمعات الأخرى. كثيرون أعرفهم لا يستبعدون أن يجدوا ذات يوم عددا من الدول تشكل فيما بينها حلفا عسكريا وسياسيا يعتمد أيديولوجية ظاهرة الرجال الأقوياء ويحكم استنادا إليها واقتناعا أو إيمانا بها. أعرف أن بين المفكرين وعلماء السياسة من يحذر من التهديد الذي يمكن أن تمثله هذه الظاهرة إن هي تحولت فعلا فصارت أيديولوجية متكاملة ثم تجسدت حلفا عسكريا مناهضا للديمقراطية.
للجنرال إيسماي أول سكرتير عام لحلف شمال الأطلسي عبارة تلخص “المسألة الألمانية” في التاريخ الحديث. يقول ما معناه أن الناتو “أنشئ لضمان بقاء روسيا خارج أوروبا والاحتفاظ بالوجود الأمريكي داخل أوروبا والتأكد من أن تظل ألمانيا خفيضة الرأس”. قارن هذا الرأي برأي السيد سيكورسكي وزير خارجية بولندا الأسبق الذي قال ما معناه “لا تخيفني ألمانيا الناشطة إنما أخاف من ألمانيا الساكنة”، ربما كان يقصد أن يقول إنه يخاف من ألمانيا خفيضة الرأس. أظن أن أي حديث عن نشأة حلف الناتو وتطوره صعودا في الدور أو هبوطا وانكماشا أو توسعا وأي حديث عن التكامل الأوروبي ابتداء من مفاوضات ثم إنشاء جماعة الحديد والصلب وانتهاء بأزمة البريكسيت مرورا بإقامة الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو وأي حديث عن أزمة الغرب بشكل عام وأوروبا بشكل خاص، أي حديث عن أي من هذه الأحداث الهامة والمفصلية لا بد وأن يتعرض بالتفصيل لألمانيا كعنصر جوهري وثابت فيها جميعا.
لا أحد في أوروبا أو خارجها يستطيع أن ينكر دور ألمانيا في السياسة الدولية وبخاصة في الساحة الأوروبية منذ توحدت على يد بسمارك في عام 1871. نشبت حرب بسببها في 1914 وحرب أخرى في 1939. قام سلام أوروبي واستمر منذ تقرر تقسيم ألمانيا. نذكر جيدا كيف قوبل في كل من فرنسا وبريطانيا قرار توحيد ألمانيا مع انتهاء الحرب الباردة. نعرف أيضا كيف كان رد الفعل في فرنسا لنتيجة استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. رد فعل من يخشى أن يترك منفردا في أوروبا مع ألمانيا في وقت ألمانيا فيه أقوى اقتصاديا وسياسيا وأوروبا تغلي اجتماعيا، وفي وقت تنسحب فيه أمريكا من مسؤوليتها كقائد للغرب، وفي وقت يقف حلف شمال الأطلسي عاجزا عن اتخاذ قرارات في مسائل حيوية كثيرة.
مرة أخرى ومع استمرار وجود دونالد ترامب على رأس الولايات المتحدة وفي ظل تفاقم عواقب أزمة البريكسيت وأمام تصاعد الأضرار الناتجة عن تصاعد النعرات القومية المتشددة في دول جنوب ووسط أوروبا ونتيجة حتمية للتغير في التركيبة الحزبية الألمانية وعلى ضوء تدهور البيئة الاجتماعية في فرنسا وإطراد عمليات التخريب السيبري من جانب روسيا وقد صارت متبادلة، مرة أخرى سوف تفرض الأحداث نفسها على ألمانيا فتعود تهتم بمسائل الجغرافية السياسية بعد سنوات من التركيز على قضايا الجغرافية الاقتصادية. تعود ألمانيا قوة عسكرية بطموحات لها ما يبررها.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق