غزة ـ حلمي موسى
اليوم السادس بعد المئة. أيام الحرب تمر، وقلوبنا على أحبائنا تمتلئ فخرا تارة وألما تارة أخرى، ولكن أملنا بالنصر لا يتزعزع. فمنذ أن كنا أطفالا، علمونا أن فلسطين عروس، مهرها هو الدماء.
**
تضيق الحلقة يوميا، ليس على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو شخصيا وعلى حكومته اليمينية فحسب، وإنما على مجمل النهج السياسي الصهيوني المتبّع في العقدين الأخيرين على الاقل.
وبالرغم من أن التوجه نحو اليمين هو سيرورة تاريخية منذ إنشاء الكيان، إلا أن الأمر اتخذ أبعادا أكثر جوهرية في عهد نتنياهو. وبلغ هذا التوجه ذروته في تحالف نتنياهو مع كل من سموتريتش وبن غفير، وهو التحالف الذي نقل الفاشية الصهيونية الصريحة من الهوامش الى قلب الحلبة السياسية وتيارها المركزي.
وربما أنه ليس ثمة عاقل في الكون، بما في ذلك ضمن المعسكر المناصر تاريخيا لإسرائيل، إلا ويبدي انزعاجه من تحالف نتنياهو الحكومي هذا. وجاءت الحرب لتكشف حقيقة هذا التحالف، وتضع إسرائيل أمام المرآة، ليس فقط تجاه الرأي العام العالمي، وإنما أيضا في محكمة العدل الدولية.
وقد اضطر الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه، المعروف بتأييده الأعمى لإسرائيل، للانتقال، خلال الحرب، من دائرة النصح إلى التحذير ثم إلى المطالبة العلنية بتغيير الائتلاف الحاكم المتطرف، وصولا إلى ممارسة أنماط ملطفة من التهديد.
وبعد قطيعة استمرت 26 يوما، تحدث بايدن هاتفيا مع نتنياهو، في ظل انباء تتحدث عن عرقلة الأخير لعدد من الاقتراحات الأميركية، وكان آخرها قيام نتنياهو بتأجيل قرارات مطلوبة أميركيا لتسهيل استمرارية عمل السلطة الفلسطينية، ووقف تفشي المجاعة في شمالي غزة.
وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن الرئيس الأميركي تحدث أمس الجمعة مع نتنياهو للمرة الأولى منذ 23 كانون الأول الماضي- في ظل التأخير في الموافقة على تحويل أموال المقاصة للسلطة الفلسطينية، وفي ظل استمرار الخلافات وتزايدها حول مسألة “اليوم التالي” في قطاع غزة.
ونُقل أن المحادثة استمرت نحو 40 دقيقة، استعرض خلالها نتنياهو الإجراءات الإسرائيلية في مختلف القطاعات، وأكد التزام إسرائيل بتحقيق أهداف الحرب، بما في ذلك إعادة الأسرى.
وبحسب البيت الأبيض، تحدث الاثنان عن “التطورات في قطاع غزة وفي إسرائيل”. وقال المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي إن بايدن “هنأ” نتنياهو على قرار “إدخال الدقيق إلى قطاع غزة”، لكنه أكد في الوقت نفسه على مسؤولية إسرائيل في تقليل عدد المدنيين المتضررين من الحرب. وشدد المتحدث على أن الرئيس الأميركي “مازال يؤمن” بحل الدولتين لإنهاء الصراع “الإسرائيلي الفلسطيني”.
وإلى جانب ذلك، أوضح كيربي أن الولايات المتحدة مازالت تعارض وقف إطلاق النار الشامل في غزة، لاعتقادها أن من شأن ذلك مساعدة نشطاء حماس. وأكد كيربي: “نحن ندعم وقف إطلاق النار الإنساني لمحاولة تحرير الرهائن وجلب المزيد من المساعدات”.
تجدر الاشارة الى أن المحادثة جرت على خلفية تقرير بثته شبكة “إن. بي. سي.” هذا الأسبوع، وأفاد بأن الإدارة الأميركية تعمل على وضع خطة لقطاع غزة لمرحلة “ما بعد نتنياهو”، بالتعاون مع السعودية و”دول عربية معتدلة أخرى”. واوضح التقرير أن نتنياهو رفض مبادرة صاغها وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن مع تلك الدول، لأنها تتضمن “الطريق إلى الدولة الفلسطينية”.
وتشعر إدارة بايدن بالإحباط لأن نتنياهو يرفض مناقشة مسألة “اليوم التالي” في غزة بسبب خوفه، على ما يبدو، من تفكك الائتلاف الحكومي. وكانت صحف أميركية قد نشرت أن مصادر مقربة من الرئيس الأميركي نصحته بالتعبير عن عدم ثقته الشخصية برئيس الحكومة الإسرائيلية – على أساس أنه “يماطل في الحرب” لأسباب شخصية ويتجنب مناقشة مسألة “اليوم التالي” في غزة.
وقالت هذه المصادر نفسها أيضًا أن نتنياهو لم يمنح الأولوية لإطلاق سراح المختطفين، وأراد الانتظار بضعة أشهر أخرى – على الرغم من الخوف من أن المختطفين لن يكونوا حينها على قيد الحياة.
وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أنه خلال جلسة الكابينت السياسي الأمني -التي انعقدت ليلة أمس الأول واستمرت حتى صباح الجمعة – تم تأجيل القضية التي اجتمع الكابينت أصلا من أجلها، وهي تسليم أموال المقاصة للسلطة الفلسطينية على خلفية الضغوط الأميركية للموافقة على تحويل الأموال كلّها، بما في ذلك تلك المقررة لغزة.
وكان مقررا أن يحسم الوزراء الموضوع، في استفتاء هاتفي في وقت لاحق من يوم الجمعة، واتخاذ قرار نهائي بشأنه. لكن ذلك لم يحدث أيضا. وتقرر تأجيل القرار الى مساء اليوم السبت ثمّ حتى الأحد، في نوع من المماطلة التي تؤخر اتخاذ القرار برغم الوضع المالي الصعب للسلطة الفلسطينية.
وكانت واشنطن قد عرضت على الكابينت الإسرائيلي اقتراحا لحل الأزمة يقوم على تحويل الأموال المخصصة لقطاع غزّة – حوالي 200 مليون شيكل شهريا – إلى دولة ثالثة هي النرويج. وتم التوضيح للوزراء أن هذا الطلب الأميركي يهدف إلى حل القضية والسماح للسلطة الفلسطينية بالحصول على بقية الأموال. ووفقا للمخطط المقترح، فإن الأموال سوف تبقى مع النرويج وبضمانة أميركية.
من جهة ثانية، يتعرض نتنياهو لضغوط من جانب حلفائه في اليمين لعدم الاستجابة للمطالب الأميركية. كما يتعرض لضغوط من عضوي حزب “المعسكر الرسمي” غانتس وآيزنكوت لتغيير أولويات الحرب وحسم أولوية تحرير الأسرى. وتتحدث وسائل الإعلام الإسرائيلية عن أن آيزنكوت رسم الخط الأحمر لنتنياهو، مع تزايد الكلام عن اقتراب هذا الحزب من الاستقالة من الحكومة وخروجه منها.
وهدد آيزنكوت، الذي فقد ابنه في الحرب، ويعتبر مقربا من عائلات الأسرى، بتفكيك الائتلاف الحاكم إذا لم يتم تحقيق تقدّم في قضية الأسرى. وألمح إلى أنه سيعمل على حل الشراكة مع نتنياهو، إذا لم يتم العمل على تحقيق حل قريب لقضية الأسرى.
وفي الوقت نفسه، فإن نتنياهو مستاء من تكرار العديد من القوى لفكرة إجراء انتخابات. وعاد الى الدعوة إلى فكرة “الوحدة الوطنية، مكررا في مؤتمره الصحافي الأخير الذي عقده الخميس أنه “عندما نكون في منتصف الحرب، عندما يسقط أبطالنا، هل تريدون إيقاف كل شيء؟ ابدأوا بحملات دعائية، وقسموا الشعب بدلاً من توحيد الشعب؟!”
ومعروف ان نتنياهو هو أكثر من يخوض حملات دعائية مستمرة، في أوقات الذروة التلفزيونية، لأغراض دعائية فقط، ولإثارة المعارك الداخلية والخارجية في زمن الحرب. وانتقد كثيرون قيامه بعقد مؤتمرات صحافية على الدوام، لا يقدم فيها أي جديد سوى إظهار حضوره أمام الجمهور، وترديد مواقف وشعارات النصر.
وكتب أحد المعلقين أنه “مرّ مئة وخمسة أيام على الحرب لكن نتنياهو كرر مرارا وتكرارا كلمة “النصر” بصيغ مختلفة، فضلا عن الوعود العسكرية مثل “لن نتوقف”، والشعار البالي الذي يقول إن الضغط العسكري وحده هو الذي سيعيدهم إلى الوطن.”
بعد مرور أكثر من 100 يوم على العدوان، لم يتغير الكثير في الرسائل التي يرسلها نتنياهو منذ البداية، مع التصريحات المبالغ فيها حول القضاء على “حماس” والانتصار الكامل عليها، الأمر الذي مازال يبدو بعيدا عن التحقيق في الواقع.
ولكن مع اقتراب “اليوم التالي”، السياسي والعسكري، باتت رسائله تتناغم مع آذان الجمهور اليميني فقط. ولهذا السبب، هو يكثّف المواجهة مع البيت الأبيض، ويعود للمواجهات المصورة مع الصحافيين الذين يسائلونه، ويتهم كل من يجرؤ على انتقاده بأنه “يقوي عدونا ويضر بالجهد الوطني”.
إلا أن نتنياهو هو من يرفض اتخاذ القرارات المصيرية ويتجنبها. وهو الذي يسمح لوزرائه ونافخي الأبواق بأن يكونوا على رأس الجيش الإسرائيلي أثناء القتال، ويستمر في تعقيد القضية في لاهاي عبر الكثير من التصريحات غير الضرورية، وهو الذي يختار بن غفير وسموتريتش مراراً وتكراراً، ويفكك رويداً رويداً حكومة الحرب مع غانتس وآيزنكوت، لمجرد خوفه من أن يقوم شركاؤه المتطرفون بتفكيك الحكومة.
كما أنه آخر من يمكنه الدعوة إلى الوحدة أو التحلي بالمسؤولية: فهو يمارس، فعليا، الألاعيب السياسة طوال الوقت.