منحت الاحتجاجات الطلابية والأكاديمية عموماً قضية فلسطين، وهي قضية العروبة، وأهم ما بقي من بلدان خاضعة للامبريالية، بعداً أممياً لم نر مثله من قبل إلا خلال ثورة العرب في عام 2011، وهي تشبه الثورات الطلابية في الغرب عام 1968 وآثارها.
تُسلّط هذه الاحتجاجات الطلابية الضوء على قضية العرب. هذا الضوء لم يكن متوقعاً، لكنه كشف أن لهذه القضية، إضافة إلى ما تختزنه في الوجدان العربي، بعداً كونياً يجعلها قضية أممية، ولو مع بعض المبالغة. ثورة العرب عام 2011 جرت على منوالها الثورات الأخرى في العالم. ثورة 2024 أممية طلابية، وأكاديمية عموماً، لا يد للعرب فيها. إذ أنهكتهم الثورة المضادة التي نتج عنها قمع شديد غير مسبوق وخوف من حروب إبادة أخرى تشنها إسرائيل ومن يتحالف معها من الأنظمة العربية. قضية العرب بما فيها فلسطين، ومنها غزة، هي قضية شعوب ما تزال تخضع للهيمنة الكولونيالية. وقضية هؤلاء هي الأولى في العالم من حيث الهيمنة بل السيطرة الإمبريالية.
اصطفاف صهيونية إسرائيل مع الإمبريالية لا لبس فيه. لولاها لما استطاعت تحقيق دولتها منذ البداية عام 1948. والبعض يعتبر إسرائيل وكأنها الولاية الـ51 في الولايات المتحدة. وما في ذلك مبالغة، إذ الصهيونية وإسرائيل هما في وجدان القوى الحاكمة الأميركية والإمبريالية الغربية عموماً.
تستخدم إسرائيل السلاح المادي قصفاً غير مسبوق في فلسطين، ولها من يُزوّدها بالمال والسلاح من الغرب، ما يفوق حاجتها لتحقيق حرب الإبادة الجماعية التي تشنها؛ ولا يغيب عن بالنا أن مشروعها الحقيقي هو ضم كل فلسطين، وليس الاكتفاء بمساحتها الراهنة. فهي ترفض حل الدولتين رفضاً قاطعاً. وتدعم توسع المستوطنين في الضفة الغربية مع ما يلزم من المجازر التي يرتكبها هؤلاء والجيش سوية. هي لا تريد حل الدولة الديموقراطية الواحدة، لأنها تعرف أن ذلك يعني انتهاء الصهيونية. الاستخدام المفرط للسلاح جعل العالم يفتح عينيه ويُدرك أنها ليست ضحية لشيء كما كانت تدعي، وأنها ذراع الإمبريالية الأهم في المنطقة العربية. اللافت للإهتمام أنها تستخدم العنف المفرط في وقت تتقاطر دول عربية إلى التطبيع والاعتراف بها. فكأن ذلك يعيد التاريخ، إذ ظهرت الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، ليس تلبية لزعم كاذب بأن فلسطين أرض موعودة من بين جميع عقارات الأرض، بل في الوقت الذي كان يهود أوروبا في الطريق إلى التماثل النهائي والاندماج في شعوب الغرب الأوروبي حيثوا كانوا يعيشون.
والمعلوم أن صهيونية الغرب هي التي هيّأت ليهود منطقتنا وبقية الشرق الأسباب المفتعلة للهجرة من بلدان كانوا يعتبرونها أوطانهم نحو إسرائيل التي لم تصبح أرضاً موعودة إلا بما صوّره لهم الغرب وصهيونيته.
السلاح الآخر الذي يُستعمل لحماية الصهيونية في الغرب هو سلاح أيديولوجي، يستند إلى عقوبتي اللاسامية والإرهاب. ولكل منهما في الغرب عقوبة في قوانين الدولة. وهما الذخيرة الأساسية لقمع المحتجين والثوار في الغرب. كلاهما يفيد في إظهار اليهود كضحية بعد أن لم يكونوا كذلك، وبعد أن كانت إسرائيل نفسها تتظاهر أنها ضحية لمن حولها، وهي لم تعد كذلك. فقد بدا بوضوح أن لديها واحداً من أقوى جيوش العالم، وأن ما ينقصه من سلاح متطوّر وذخيرة يمده بها الغرب الإمبريالي بأسرع من لمح البصر. فالمندوبون الغربيون، وخاصة الأميركيون، كانوا وما زالوا في غرفة العمليات التي منها تصدر أوامر حرب الإبادة الجماعية.
من يُتهم بالإرهاب لا يحتاج إلى محاكمة توجبها القوانين، بل يُقتل فوراً حتى من دون محاكمة ميدانية. واللاسامية لها قوانين وعقوبات في الغرب، لكنها تهمة تُستخدم لتشويه السمعة أكثر مما في المحاكم. يكفي أن ينتقد المرء دولة إسرائيل حتى يتهم باللاسامية. تستطيع في أي بلد غربي أن تنتقد دولتك وحُكّامها، لكنك لا تستطيع انتقاد الصهيونية أو دولة إسرائيل، دون تهمة وعقاب. وكل ذلك لخنق النقاش والحوار اللذين هما ما ارتكزت عليهما الليبرالية الغربية.
النيوليبرالية هي الأيديولوجيا السائدة في الغرب والعالم. هي أداة الإمبريالية الفعّالة، وهي التي تشن في الظاهر صراعاً ضد الدولة (نستذكر قول رونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي: الدولة ليست هي الحل بل المشكلة).
وجدت النيوليبرالية في ثورة طلاب الغرب، (يُذكِّر ذلك بما جرى في العام 1968) فرصة لشن حرب على الأكاديميا عندها، بما في ذلك الطلاب وإدارات الجامعات والأساتذة، ومناسبة لتدجينهم. أصحاب الرأسمال المالي بدأوا يُخفّفون تبرعاتهم للجامعات التي ترفض الانصياع، وتخرج عن الطاعة. ولدى هؤلاء البديل عن الجامعات وبحوثها العلمية، في ما يسمى مراكز التفكير (Think Tanks). وهي كثيرة في الغرب، ولا يمانع العاملون فيها، أو مفكروها، في الخضوع وقول ما يراد منهم، حتى وإن تظاهروا بالمنهج العلمي.
إن تفكيك الدولة الليبرالية ليس في حقيقة الأمر تفكيك الدولة بذاتها، بل تفكيك نظامها الليبرالي، ومكتسبات الطبقات الدنيا التي حقّقتها في حقبة الاتحاد السوفياتي والقطبية الثنائية التي تلت الحرب العالمية الثانية واستمرت حتى مطلع التسعينيات الماضية. بعد تفكيك الطبقة البروليتاريّة وضرب نقاباتها، تجد النيوليبرالية لزوم الحرب على جميع الطبقات المتوسطة، وتلك التي هي أدنى منها في السلم الاجتماعي. الأداة الأساسية هي التضخّم، أي هبوط القيمة الشرائية للعملة. ففي مجتمع استهلاكي، تعلو صرخت الطبقات الدنيا، بما يسمى الضائقة الاقتصادية؛ فالكل يشعر بها. إنهم في أزمة اقتصادية اجتماعية، عدا الطبقات العليا التي تُشكّل أقل من واحد بالمئة من الناس.
الحرب على الأكاديميا في الغرب هي الوجه الآخر من ثورة الطلاب الذين لا يستطيع قسم كبير منهم القيام بالدراسة الجامعية من دون الحصول على قروض لإيفاء الأقساط المرتفعة، مما يضطرهم إلى تكثيف عملهم بعد التخرج للإيفاء بتلك الديون، على مدى سنوات طويلة. هُم إذ يحتجون ضد النظام بشأن فلسطين، يندرج ذلك في سياق قضاياهم الداخلية التي تبعث بهم على الغضب والعصيان. هم لا يستطيعون تقبل صنع السلاح في بلدهم (بلدانهم) وتدفقه لإسرائيل من دون حساب، بينما يهبط مستوى معيشتهم، وتُشنُ عليهم حروب النظام الإقتصادية والأيديولوجية.
الطابع الأممي لثورة الطلاب والأساتذة في الغرب مرده أن أسبابهم ليست داخلية بل عالمية. لم يحدث عند العرب ما يوازي الغرب الإمبريالي، وذلك أمر لافت للانتباه. لكنه لا يُثير الدهشة نظراً لما يصيب العرب على أيدي حكامهم السياسيين والأيديولوجيين. فالاستبداد قمع مادي وفكري. وحالة الثقافة عندنا تشير إلى ضحالةٍ، أسبابها معروفة ونتائجها بادية. مثلاً، دُور النشر ونوعية المطبوعات الصادرة عنها، شكلاً ومحتوى. فما يصيب المرء مادياً ينال من عقله أيضاً، ويؤدي بالثقافة إلى الركود، بما في ذلك الحس الإنساني الذي يتحوّل إلى التبلّد.
نتابع ما يجري في الغرب حول قضيتنا ولا نستطيع أن نجرؤ على ذلك. في بلادنا الاستبداد أنواع. وما يسود منه عندنا يشل العقل، ويبعده عن التفكير والتساؤل والتشكيك. وفي نفس الوقت يُحوّل المشاعر إلى جماد، أو هو نار تحت الرماد بما لا ندري، كما كنا قبل اندلاع ثورة 2011 العربية، والتي اندلعت دون توقع منا، وربما لم نكن مُهيئين لها، فحدثت وكأن تفكيرنا وشعورنا كانا في “بلاد الواق واق”.
لا بدّ أن في ذلك درساً للذين منا يرفضون ثقافة الغرب والذين ما زالوا يتحدثون عن “الرجل الأبيض” والنظريات البائدة حوله. فالثقافة عالمية والعولمة وجهان، كوجه بانوس الإغريقي.
سوف يتغلب النظام الإمبريالي على الثورة الأممية التي اندلعت في المركز عنده، لكن الأثر سيبقى، وسوف ينطبع في السياسات المتبعة.. وكل ثورة نتائجها تراكمية إلا في ما ندر.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق