قُضِيَ الأمر، وثبت شرعاً، وبالدليل المادي الملموس، وباعتراف تركي رسمي، بأن جمال خاشقجي قد قضى نحبه داخل القنصلية السعودية في اسطنبول..
لكن هذه الجريمة مازالت، حتى اللحظة، “مجهولة الجاني”؟! والأسباب: هل هو انتحار، مثلاً؟ ام هو استهداف ـ من بعيد ـ لولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان؟ ام هو استهداف لبطل كل الازمنة والأمكنة أردوغان؟ ام أن المغدور الخاشقجي لم يجد وسيلة للتخلص من خطيبته التركية التي كانت تنتظره عند باب القنصلية سوى الطلب من القنصل السعودي ومعاونيه أن يريحوه منها ويريحوها منه، ولهم الاجر والثواب؟
ثم.. من تراه صاحب القرار في “اعدام” الخاشقجي؟.
في مملكة الصمت والذهب صاحب القرار واحد احد لا ثاني له ولا وكيل ولا نائب، ففي حضور الغياب، او غياب الحضور لخادم الحرمين الشريفين (وهو لقب موروث عن السلطان العثماني، الذي انتبه متأخراً إلى ان اللقب ليس من حقه شرعاً، فهو ليس من الاسرة الهاشمية، بل وليس حتى من العرب).. وهكذا تخلى عنه. ولما آل الحكم في ارض النبوة إلى آل سعود، وقد أخذوها بالسيف ومعه الانكليز، بات طبيعياً أن يزينوا عرشهم باللقب السامي، الذي قد يمنحهم حصانة مفتقدة باعتبار انهم ليسوا من اهل النسب الشريف ولكنهم من اهل السيفين؟
ثم.. لماذا تُرك الخاشقجي حراً، بعد مذبحة الامراء ورجال الاعمال التي انتهت بهم في فندق ريتز الفخم في الرياض بعدما دفعوا المال ورأس المال، بعد كراماتهم وسمعتهم وملياراتهم ومعها؟..
لماذا لم يبادر الامير خالد بن سلمان، سفير السعودية في واشنطن، إلى احتجاز الخاشقجي في السفارة الفخمة، وتركه يغادر إلى تركيا.. أليس هذا التقصير خطيراً؟
ولماذا أُتيحت للرئيس الاميركي دونالد ترامب هذه الفرصة الذهبية بالفعل، لابتزاز المملكة في ذهبها وكشف خيبة سيفها، اذ تحولت العملية الموعودة إلى ما يشبه الانتحار الذاتي لمملكة الصمت الابيض والذهب الاسود؟!
لقد تهافت الملوك والرؤساء والامراء والوزراء والاعيان العرب، في المشرق والمغرب، على مسابقة بعضهم البعض في إعلان الولاء للمملكة المعروفة بديمقراطيتها وتدينها (بدليل انها مسحت كل الامكنة التي تذكر برسول الله ونبيه محمد بن عبد الله) لأنها مع السياحة وضد عبادة الاصنام، ومع التجارة الحرة، لا سيما وان الحرم وجواره يكاد يكون الأغلى سعراً في التاريخ الانساني.. فهل يجوز أن نترك الحجيج يقوم بمراسم الحج مشياً على الاقدام، ام نيسر له الامر فيتنقل بالقطار الكهربائي السريع، حيث لا غبار، ولا مشقة، وانما زيادة طفيفة في رسوم الانتقال؟!
كل اولئك الملوك والرؤساء والوزراء والاعيان بالأجر، ومعهم الصحف والاذاعات ومحطات التلفزة التي يملكون، تبرعوا بشهادة الزور طوعاً، بعضهم من اقسم بما قُسم له من الشرهات، وبعضهم الآخر راهن على زيادة المخصص، باعتبار أن هذه المهمة “طارئة” ومن خارج دوام النفاق الرسمي.
وبطبيعة الحال، فان أبواق اصحاب الجلالة والفخامة هؤلاء، قد نطقوا كفراً، وشهدوا زوراً، وتبرعوا بروايات عجيبة غريبة عن علاقتهم بجمال خاشقجي، بل أن بينهم من ادعى الصداقة الحميمة مع الكاتب المغيب والذي لم يعد بإمكانه أن يكذب هذا “الشاهد الملك”.
بالمقابل فان الادارة الاميركية بقيادة الرئيس دونالد ترامب، وهو المضارب المميز في البورصة، قد مارست لعبتها المفضلة: بدأت باستهوال الجريمة الموصوفة، مع التوكيد انها لا تستطيع الصمت، وان على المملكة أن تثبت براءتها والا… وفي مكالمة مع الملك السعودي رفع الرئيس الاميركي صوته بالابتزاز: نحن نحميكم.. وأنتم لا تدفعون لنا كفاية.. لولانا لما كنتم موجودين، فادفعوا والا… ثم اننا نعرف كل التفاصيل عن خاشقجي الذي كان يقيم لدينا وتنشر مقالاته في كبريات صحفنا… ثم، أيها الملك، ماذا لديكم غير المال، ونحن نحتاجه لدفع مرتبات العمال والموظفين المنتجين. هيا ادفعوا او تحملوا النتائج..
..ويبدو أن هذا الانذار قد اعطى ثماره: فأمس الاول، توجه وزير الخارجية الاميركية إلى الرياض لإنجاز الصفقة مع الملك الغائب وولي العهد الحاضر محمد بن سلمان.
أما أردوغان تركيا فقد جاءته الفرصة الذهبية من حيث لا يحتسب: انه الآن سيد اللعبة، يأخذ من السعودية، ويأخذ من ادارة ترامب.. والمزاد مفتوح، ولسوف يحقق “بضربة واحدة” ما ينعش الاقتصاد التركي الذي يتراجع حتى لو احتاجت عملته إلى جراحات تجميلية عديدة لكي لا تنهار، كما في ماضيها القريب..
الكل سيخرج من هذه الصفقة رابحاً: الولايات المتحدة التي تريد المزيد والمزيد من ذهب المملكة الذي يُهدر على القصور واليخوت والحروب العبثية، كما في اليمن، و”الشرهات” المتعاظمة لملوك ورؤساء ووزراء في بلاد المشرق والمغرب (حتى حيث لا دولة، كما حال ليبيا..)
ثم أن تركيا التي تحسن الاتجار بالإسلام في الدول التي شعوبها، كلها او بعضها، طورانية.. كما انها تحتضن الاخوان المسلمين، مغرباً ومشرقاً بعنوان سوريا، كما أن رئيسها اردوغان يتقن لعبة الديمقراطية، فها هو سلطان منتخب بأصوات الاتراك، ومن ضمنها اصوات الارمن المقتولين، والكرد المرشحين للقتل، والعرب الذين “تُرِّكوا” برغم انوفهم كما في “اللواء السليب” اسكندرون..
أما الخاسر الاكبر فهم العرب الذين يخسرون، يومياً، وبأفضال حكامهم، المزيد من جدارتهم بأن يكونوا احفاد ناشري الدين الاسلامي في العالم وبناة الحضارة من بغداد العباسيين إلى الصين مروراً بالأندلس، بعد دمشق الامويين، وقاهرة الفاطميين..
وذهب الملك السعودي وولي عهده الذي يبشرنا بحجز ابناء عمومته، ومعهم رئيس حكومة لبنان، وقتل معارضيه، بشهادة جمال خاشقجي، لن يبني الغد الافضل، وان كان سيشوه الغد المرتجى!
لقد ثبت أن قنصلية سعودية واحدة تستطيع أن تغير في التحالفات الدولية، وان تهز مملكة الصمت والذهب، وان تحقق لترامب اقصى ما كان يطمع في جبايته من السعودية، وان تعيد الاعتبار إلى اردوغان … وكل ذلك بجثة واحدة مزقتها السكاكين والسيوف والرصاص في القنصلية المذهبة في اسطنبول.
تنشر بالتزامن مع السفير العربي