يبدو تناقضاً والحقيقة بنية فكرية واحدة
بعد ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة، تطرح “المبادرة الوطنية” ثلاثية الشرعيات الثلاث: الشرعية الوطنية، والشرعية العربية، والشرعية الدولية. التعابير مختلفة والمسميات واحدة تقريباً. الجيش مطلب الشرعية الدولية (وهذا لا يمنع ان اللبنانيين أيضاً يريدون جيشاً قوياً)، مقابل الشرعية الدولية. الشعب مقابل الشرعية الوطنية. المقاومة مقابل الشرعية العربية. شرعية الدولة غائبة في الثلاثيتين. والغريب أن المطابقة في المسميات تدل على بنية فكرية واحدة. غياب مفهوم الدولة هو آفة كل اللبنانيين. تختلف المسميات والمضمون واحد. كأن الجميع يخضع للسلطة إجبارياً ولا يريد دولة ينتظم المجتمع في إطارها.
طرف يجيّر الشرعية (بثلاثيتها) لإيران، وطرف آخر يجيّر الشرعية (بثلاثيتها) للمملكة السعودية. الدولة التي لا تستقيم إلا بمواطنيها، وهي غير موجودة في كلا الثلاثيتين. لا تغني عن ذلك مقولة الشعب والشرعية الوطنية. فكل منهما عنوان لجنوح الطرف الذي يتبنى ثلاثيته الى الخارج. الداخل هو المواطن. ضمير المواطن. وجود المواطن هو ما يجعل الدولة قائمة. الدولة قائمة في ضمير المواطن لا خارجه؛ لا في المؤسسات الداخلية، ناهيك عن الخارجية.
لا تقوم الدولة الحديثة إلا بالمواطن؛ انغرازها في ضميره، واحتواء وعيه لها. هذا ما يجعل من السلطة دولة، وما يحولها الى دولة حديثة. السلطة موجودة منذ أقدم العصور. الدولة كيان ومفهوم حديثان. في الحداثة تصير الدولة إطاراً ناظماً للمجتمع؛ عيشاً مشتركاً. في إطارها تكون الحداثة، ويصير للمواطن معنى حقيقي وثابت. الدولة ضمير المواطن، أي أنها المواطن في مشاركته بالقرار. عندما يتحوّل الرعايا من قطعان تُؤْمَرُ وتَخْضَعُ وتُقاد، الى مواطنين يأمرون ولا يخضعون إلا للقانون، ولا ينقادون إلا لأنفسهم، تصير السلطة دولة. تبقى السلطة بأجهزتها في إطار الدولة، وتحت إمرتها، من دون الدولة السلطة تحكم وأجهزتها تقمع، وتراقب، وتدين، وتعذّب. الدولة مجرّد مواقع في الوقت عينه؛ الدولة تجريد يعطي السلطة شرعيتها فتصير دولة. تحديد الدولة يرتكز أساساً على المواطن وانغراز الدولة في ضميره. الدولة هي المواطن. المواطن هو الدولة. في دولة المواطنة هناك مجال للسياسة، أي المجال العام حيث الحوار والنقاش والتسويات. الدولة هي الإطار الناظم للمجتمع. مهمة السلطة ملاحقة وضبط مخالفي القانون، ومحاولة جعلهم ينضوون في إطار الدولة، حيث لايصير تطبيق القانون على المخالفين استثنائياً. أساساً، عندما يخالف كل الناس القانون تعجز السلطة عن معالجة الأمر، وينهار مفهوم الدولة؛ المفهوم الذي يجعل من السلطة دولة حديثة. المسألة ليست ستاتيكية كما عند ماكس ويبر، بل هي ديالكتيكية جدلية متحركة. في هذه الحركة تنحل مشكلة الدولة والسلطة لصالح الدولة التي عندما تتأسس، أي تنغرز في ضمير المواطنين، يصير هؤلاء مشاركين فيها، وتصير الدولة مؤسسة حديثة بكل معنى الكلمة؛ ولا يعود الرعايا محتاجين للزبائنية والواسطة، ولا للانضواء تحت لواء الطائفة، أو العشيرة، أو العائلة، أو الزعامة المحلية كي تحجز لأصحابها مكاناً لنيل مغانم السلطة. الدولة هي ما يقدمه المواطن، ولا يحتاج إلا أن يقدم شيئاً واحداً هو الرضى أي الشرعية. لا تحتاج الدولة الى طريق للعبور إليها؛ هي ليست جنة الله على الأرض التي متى ما وصلنا إليها نكون قد حققنا ما نصبو إليه، ونستريح استراحة المحاربين بعدها. أنت لا تعبر الى الدولة، أنت تعيشها إذا أردت. السؤال هل نستطيع “العيش سوية” طرحه ألان سورني في فرنسا. هو ليس يسارياً. كنا نظن أن فرنسا هي أكثر الدول انسجاماً داخلياً. أن نكون في دولة معناه أن نكون مواطنين، والدولة هي حصيلة حوارنا ونقاشنا وتفاعلنا، وحصيلة ضمائرنا.
الدولة ليست مؤسسة ميتافيزيقية خارجية. هي كيان داخلي، يكون قائماً حين يكون مغروزاً في ضمائرنا. وجودها مرهون بمقدار ما يكون كل واحد منا مواطناً، شراكته في المجال العام لا تقل عما لكل مواطن آخر، حتى ولو كان في أعلى السلم السياسي. الدولة الحديثة مجتمع مفتوح؛ مجال مفتوح. نقاش عام في كل القضايا. يكون القرار في مؤسسات السلطة، من مجلس وزراء الى مجلس نواب الى رئاسة جمهورية؛ الى الأجهزة الأمنية والبيروقراطية والديبلوماسية التي تنضوي تحت راية السلطة. والسلطة لا تكون سلطة في دولة إلا إذا كانت سلطة ديمقراطية في مجتمع مفتوح؛ مجتمع غير مغلق في طوائف تحت سيطرة أباطرة الطائفية السياسية. لدينا سلطة حقيقية، موزعة ولاءاتها على عدة قوى خارجية، والدولة تمنع بقدرة قادر عن التدخل في شؤون السلطة.
بذلك تُستمد الشرعية من المواطن. الشرعية يقررها الداخل اللبناني في مجتمع مفتوح وحوار مستمر؛ يقررها مواطنون مشاركون في كل ما هو مطروح. مهمة السلطة هي التنفيذ لحصيلة الحوارات والنقاشات التي تُختصر وتتحوّل الى قرارات في مجلس الوزراء ومجلس النواب. الوكالة التي يأخذها هذان المجلسان ليست وكالة عن الشعب، تنتهي بالانتخابات ويصير الشعب معزولاً بستار من السرية التي تمارسها السلطة. الدولة إطار ناظم للمجتمع. السلطة تمثل قرار المجتمع ولا تعمل بالنيابة عنه. الفرق كبير بين الإثنين. في الأوّل المجتمع مفتوح، يجعل الشعب حاضراً في كل مكان. في الثاني يغيب الشعب بين مرحلتي الانتخابات. في هذه الانتخابات (2018) الشعب غائب كلياً. يقرر بضعة أباطرة على الطوائف المرشحين والناجحين فيها.
بين ثلاثية وأخرى، يغيب شعب المواطنين وتغيب الدولة. يغيب الداخل اللبناني. تظهر التبعية للخارج. الجيش وعلاقته بالغرب عامة، وبالأميركيين خاصة. حزب الله وعلاقته بإيران. المبادرة الوطنية وعلاقتها بالمملكة العربية السعودية. وتبقى أجهزة السلطة الأمنية والمالية والديبلوماسية تدير هيكل الدولة أو ما تبقى منها.
الدولة موجودة. لكننا نعطلها لصالح السلطة. في السلطة، يتدخل أهل العز ويمارسون العشوائية. وتصير القوانين ذات تطبيق استنسابي. الثلاثيات من هنا وهناك تكربج الدولة وتفسح المجال لأطراف السلطة ليمارسوا عشوائيتهم في القضايا الأمنية والاقتصادية، الخ…
لا معنى للديمقراطية إذا لم يشارك الشعب في السلطة ليحولها الى دولة. يُمنع الشعب من المشاركة بتحويل الانتخابات الى نوع من الاستفتاء، فتصير السلطة حاكمة من وراء ستار، والشعب مغيّب عما يجري. تمر الموازنة ولا نشاهد نقاشاً عاماً عما جرى من نقاشات لإخراجها. تجري الإضرابات لأنّ الناس ممنوعون من المشاركة.
الشرعية الوطنية هي شرعية المواطن والدولة. المواطن في مواجهة الدولة من دون وسيط من طائفة أو عشيرة أو قبيلة. هي أن نعيش سوية بعلمانية أو من دونها. في دولة المواطن، العلمانية تحصيل حاصل: يكون كل مواطن قد خرج من طائفته لينضم للدولة، ويمارس طائفيته في أمور لا تتعلّق بالمجال العام ولا بمصالح الناس. تتحقق المساواة بالمشاركة في مجتمع مفتوح إطاره الدولة. الشرعية الوطنية اسم مستعار لوضع الوطن (أو ما يقصد به الدولة) في مواجهة قوى خارجية. يجب أن يُقال للمرة الألف أو أكثر إن الوطن مهما كان صغيراً لا يُهزم ولا يتبع إذا كان فيه دولة ذات شرعية مستمدة من الداخل، من المواطن. بلد من هذا النوع يستطيع مواجهة أقوى الدول ولا ينهزم، ولا يخضع، ولا ينتهي الى التبعية.
الشرعية العربية تعني استمدادها من الوضع العربي، ومن المنظومة الحاكمة العربية الممثلة في الجامعة العربية. يغيب عن البال أن شرعية المنظومة العربية تُستمد من شعوبها، ومن رضى شعوبها؛ وهذه الشرعية العربية مشكوك فيها. تُستمد الشرعية العربية من الشرعية القطرية، من شعب القطر الذي يقرر سياسة بلده. يستمدون شرعيتهم منا ولا نستمد شرعيتنا منهم. في الدراسات الاستراتيجية يطرحون موازين القوى بين الدول سواء كانت ممثلة لشعوبها أو غير ذلك. تريدون شرعية حقيقية؛ وهذا حق. لكن هذه الشرعية الحقيقية لا تُستمد إلا من الشعوب التي تعيش في مجتمعات مفتوحة وتمارس السياسة في مجالات عامة متاحة للجميع.
من منطق عربي عروبي نقول هذا الكلام لأن الطريق الى العروبة يمر عبر الأقطار العربية، على أن يكون لكل قطر دولة فوق السلطة؛ مجال عام للحرية لا الاستبداد والقمع. حياة سياسية قائمة على التسويات وتراكمها. الشرعية تأتي من الداخل لا من غيره. حتى ولو كان هذا الغير عربياً. نعرف تماماً ما هو مصير المنظومة الحاكمة العربية في المجتمع الدولي، ومدى التبعية للقوى الكبرى عالمياً وإقليمياً. علينا أن لا نخوض الحرب الأهلية العربية بحرب أهلية أخرى. وعلى المثقفين دور أساسي في إيقاف الحرب الأهلية وإرساء معالم الدولة في كل قطر. وكل عمل وحدوي عربي يمر عبر الأقطار كدول لا كسلطات، كما شرحنا.
أما المجموعة الدولية، فإن مصيرنا معها هو مثل مصير أبي مازن والسلطة الفلسطينية مع إسرائيل. لا تُستمد أي شرعية من المجموعة الدولية، ليس لأنها خارج وحسب، بل لأن هذا الجسم السياسي تتحكم به الولايات المتحدة المنحازة الى إسرائيل؛ ليس لأنهم يحبون اليهود بل لأنهم يكرهون العرب أكثر. الشرعية الدولية (إذا صحّ التعبير، ومن المشكوك في ذلك) هي اللاشرعية بعينها. نرى بأم أعيننا كيف تتزاحم جيوش دول المجموعة الدولية الكبرى والمحلية في المشرق العربي، حتى بتنا نخاف حرباً عالمية بينهم.
الشرعية العربية كما الشرعية الدولية، هما عبارة عن قرارات تصدر في مجلس الجامعة العربية أو في مجلس الأمن. ما رأينا أياً من هذه القرارات إلا وكان بمثابة “رفع عتب”. من مساخر الدهر أن سوريا طًردت من الجامعة العربية ولم تُطرد من مجلس الأمن. هل معنى ذلك أن القرار في مجلس الأمن أكثر جدية؟ يصعب الاقتناع بذلك. سوريا تلزمهم هناك ولا تلزمهم هنا. كل يتعامل مع سوريا بمقدار ما يكون الأمر مفيداً للقوى المسيطرة في كل منهما. الجامعة العربية يُراد لها أن تكون منتدى سعودياً. مجلس الأمن يُراد له أن يكون منتدى أميركياً. أية شرعية تُستمد من هذا أم ذاك؟
هناك تيار من المثقفين يعتبرون العامة دهماء لا يفقهون ولا يعرفون مصالحهم الحقيقية، ولا يعون الحقائق الوطنية الكبرى. يعتبر هؤلاء أن إزاحة الدهماء من الطريق تحجبهم عن الحوار والنقاش، تسهّل الأمر وتجعل الاتفاقات والتسويات في متناول اليد. كما قال إقليدس، الذي كان يعلّم إبناً، والذي أراد طريقاً سهلاً للرياضيات، قال له ان هناك طريقة ملكية للرياضيات. نقول انه لا طريق ملكية للسياسة. على ملوك الثقافة أن يتعلموا هذا الدرس وينخرطوا في السياسة الحقيقية، في المجال العام، حيث الأرض مدخله، والنتائج تسويات لا ترضي أحداً بالكامل. الطريق الملكية للسياسة، طريق هذا التيار من المثقفين، هي طريق التفاوض بتبعية مع بضعة دول يُفوّض الأمر إليها.
تنشر بالتنسيق مع موقع الفضل شلق