المثقف ذو عقل نقدي. يلتزم بالمعرفة أولاً، وبضميره ثانياً. ينشأ الضمير على المعرفة النقدية. يكون إستسلاماً لغيره إن لم يكن نقدياً. معنى كل ذلك أن يلتزم بنفسه أولاً. لا من ناحية الأنانية والمصلحة الشخصية، بل من ناحية الضمير والإلتزام بالمجتمع ومصالحه ومطالب الفقراء وحقوقهم.
الالتزام الحزبي أمر عملي وثانوي. يلتزم المثقف بالحزب لا ليدافع عن فكر الحزب بل ليساهم في دفعه خدمة للمجتمع، لأنه يعتبر المجتمع فوق العقيدة، وذا أولوية عليها. يكون في ذلك مشاغباً. نادراً ما ترضى القيادات بالإعتراض على موقفها مهما كان الأمر. تتزايد الانشقاقات في الأحزاب بمقدار ما يزداد النقاش والحوار الداخلي، وتكون القيادة في الوقت عينه مصرة على مواقفها، وعلى اعتبار ذلك الموقف الصحيح الذي يجب أن يطاع. عسف القيادة استبداد. لا أحد يمتلك الحقيقة. هي نسبية، ومن اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد. يجب إعمال الفكر دائماً، وتشغيل العقل في معرفة كل شيء، وإملاء الضمير في كل موقف. كل ذلك أوجه لشيء واحد: هو الحرية. أولوية الحرية الفردية أمر لازم في حاضر الغرب. الحرية فردية، التحرر جماعي. على الفرد ممارسة الحرية في وجه المجتمع والحزب وكل تنظيم سياسي.
المثقف صاحب موقف. يلتزم بالعمل حسبما يمليه ضميره. إذا انتمى لحزب أو أي تنظيم سياسي، أو مؤسسة سياسية أو فكرية أو ثقافية، فإن ذلك يكون خدمة لمجتمعه. الالتزام بقضايا المجتمع أولى من الالتزام بالحزب أو ما شابهه. ليس الانتماء الحزبي غاية في ذاته. الغاية هي قضايا الناس، قضايا المجتمع، وما يمليه الضمير في انحيازه للإنسان ومصيره. عندما يصير الحزب غاية في حد ذاتها فإنه يصير مرتعاً للاستبداد والانتهازية؛ مجرد قيادة تختصر القضية في ذاتها، وتحصر المجتمع بالقضية، وتضع القضية فوق الناس. المسألة لا تتعلّق بما يسمى مقولة الغاية تبرر الوسيلة. المجتمع ومصالحه هما الغاية وهما الوسيلة. المجتمع وانفتاحه على المستقبل، وانفتاحه على بعضه، والإنتاج، وخدمة الناس. كل ذلك جزء من القضية. المجتمع هو القضية. ما يعلو عليه هو أوهام المثقفين وادعاءات الملتزمين وانتهازية التنظيمات. على المثقف الملتزم أن يقود المجتمع بالتعبير عما به؛ أن يقول ما لا يتاح للناس أن يقولونه. لا يعجز الناس عن التعبير عن حاجاتهم ومصالحهم ومشاعرهم إلا بمقدار ما يتوهم المثقف أنه هو الأقدر بفضل تعليمه على التعبير. يعزل المثقف نفسه عندما يدعي الانفصال عن المجتمع والاستعلاء عليه. أصحاب القضية الذين لا تربطهم رابطة عضوية مع الناس غالباً ما يسخرون منهم، ويسخّرونهم في خدمة إستعلائهم. ربما يبدأون النضال بإخلاص للناس. ضعف المعرفة وانسلاخ الأخلاق عن الضمير يقودان الى الاستعلاء والسخرية والنظر بعين الهزء الى الآخرين. هم أصحاب قضية، ويعتبرون الآخرين وقوداً لقضيتهم أو خونة لما يريدون الإملاء عليهم.
المسألة معرفية بالدرجة الأولى. لا يعرفون مجتمعهم بقدر إنعزالهم عنه. تعزلهم عنه المسافة التي يضعونها بين أنفسهم وبين الناس. ربما انخرطوا بالناس لكن اعتبارهم لمسافة الوعي يفرّقهم عنهم. يزعمون أنهم يعرفون ما لا يعرفه الناس. الأكثر من ذلك، يدّعون معرفة ما في نفوس الناس أكثر مما يعي الناس عن أنفسهم؛ هم أدرى بما في الصدور، والمسافة تجعلهم على جهل به، أو تجاهل له. الطبقة السياسية في لبنان، مثلاً، تتجاهل الناس وتجهل ما في صدورهم..
السلطات وأحزابها تعرف أن اقتران الضمير بالمعرفة يولّدان التزاماً بالحقيقة. هذا الالتزام عامل تفجّر وتفجير، لذلك يحاول أهل السلطة مواجهة ذلك إما بإعطاء المثقفين بعض الامتيازات أو إستخدام المراقبة لكمّ الأفواه. أي ما يشبه الرشوة، وما يشبه القمع: يتحولان عند الأزمة الى إفقار وقمع حقيقيين. لا يهم السلطة إذا تكلمتَ ضد العدو الإسرائيلي والغربي عامة، أو إذا إلتزمتَ الصمت مهما كُنتَ تعرف (إسكات الضمير)، كي لا تتحدث عن الحاضر ومآسيه. يعرف أهل السلطة أن وضعنا العربي مأساوي. وهم يجهدون كي لا تظهر المأساة أو لا يتكلم أحد بها… إلى أن تنفجر الأوضاع السياسية.
العدو الأوّل للمثقف المتمرّد هو المجتمع المغلق، حيث لا حوار مفتوحاً ولا نقاش علنياً. المجتمع المغلق بدوره، وبتعاون مع السلطة الدينية، هو العدو الأول للمثقف العضوي المتمرّد. إذ تكثر الممنوعات من حرية التعبير إلى حرية التفكير.
الحزب المغلق هو كالمجتمع المغلق، خطر على نفسه. عملياً، تشكّل الأحزاب مجتمعات داخل المجتمع، أو دولاً داخل الدولة. قد تتميّز بسرية العمل فيها، وقد تضطرها ظروف الاضطهاد والملاحقة والمراقبة الداخلية (السلطة الوطنية) أو الخارجية (قوى إمبريالية أو عدوة) الى العمل السري. مع انتفاء سيطرة القوى الخارجية، تبقى بعض الأحزاب على سريتها. بطل السبب لكي تكون تنظيمات تحررية (تحرر ضد الخارج) فتبقى على سريتها مع انتفاء وجوب السرية. عندها تفقد علاقتها بالمجتمع. تشكّل مجتمعاً صغيراً منغلقاً، بالأحرى تشكّل القيادة غاية في ذاتها؛ تصير عبئاً على تنظيمها وعلى مجتمعها، إذ هي تتمتع بالامتيازات على حساب شعبها ومجتمعها ودولتها؛ كما حصل مع الحزب الشيوعي السوفياتي مع تطوّر الستالينية. صار ستالين فوق المساءلة، والحزب ليس موقعاً أو مجالاً للنقاش والتساؤل. لم تعرف شعوب الاتحاد السوفياتي والعالم المجازر التي إرتكبها ستالين بقيادة حزبه ضد المجتمع. سقطت هذه الدولة العظمى من الداخل في أواخر الثمانينيات الماضية. من حسنات الحزب الشيوعي السوفياتي هو السقوط من دون حرب أهلية. لم يقف في وجه الإهتراء الداخلي. بعد أن كان حزباً يدافع عن عقيدة لا موضوع لها إلا الناس ومصالحهم، صار على يد ستالين يتخذ العقيدة وسيلة للحزب. والحزب صار أداة ضد المجتمع بيد النخبة الحاكمة.
على النخبة السياسية في كل بلد، سواء أكانت في السلطة أم خارجها، وسواء أكانت جزءاً من السلطة أم هي تشكّل السلطة، أن تفرّق بين التفكير والنضال. الفكر فرض عين تحوّل الى فرض كفاية. أما النضال فهو فرض كفاية، ويبقى كذلك. يتحوّل الفكر، عندما يصير عقيدة، الى أداة قمع إذا يبتعد عن السؤال والمساءلة وأحقية التمرّد الفكري.
التمرّد ليس مسألة فردية وحسب. والمثقف أيضاً ليس حالة فردية. كل منهما حالة اجتماعية. على المجتمع أن يتمرد على نفسه، وأن يخرج على إنغلاقه، ويعارض جميع أنواع السلطة، الاجتماعية والسياسية الحاضرة، وسلطة الماضي على الحاضر. يتمرّد المجتمع على نفسه عندما يخرج من الماضي ويدمر سلطته؛ عندها يخرج الى المستقبل. يصنع المستقبل.
منذ نهاية القرن السادس عشر حتى الزمن الراهن، تقدم الغرب وبقيت المجتمعات الإسلامية بما فيها الدولة العثمانية وايران، وبقية المناطق الإسلامية مكانها. يخرج الفرد من ذاته، والمجتمع أيضاً، إذا إرتد عليها بحثاً ومعرفة وتمحيصاً ورفضاً لما هي عليه. الإرتداد على الذات بداية التغيير والتطوّر. التمرّد إرتداد على الذات. التمرّد على الداخل والخارج، في الذات وخارجها، وجهان لعملة واحدة. إرتدّ الغرب على نفسه باكتشاف العالم الخارجي بما يسمى الإكتشافات الجغرافية (أسيا، أفريقيا، وأميركا)، والإكتشافات الفلكية (غاليليو وكوبرنيكوس، وغيرهما). ثم الإكتشافات داخل الكائن البشري، لا في الطب وحسب، بل في الروح. القول “أنا أفكر.. إذاً أنا موجود” هو بداية خروج الإنسان من كونه هامشاً لكائن آخر. هل كان ذلك ممكناً من دون إكتشاف المطبعة والحروب الدينية (الخروج على هذه السلطة)، وصولاً إلى الثورات الفلاحية والبورجوازية؟ والأهم من ذلك أن الإنسان يتعلّم علماً حقيقياً وجديداً لا من كتب التراث وحدها، بما فيها المقدسات، بل من العقل والتجربة. في الوقت الذي كان الغرب يتمرّد على نفسه، كانت المجتمعات الإسلامية تنضوي تحت لواء الماضي، وتنتج سلسلات طويلة عن تاريخ من سبق؛ كانت ما تزال تسكن الماضي. لم تنتقل الى بيت المعرفة الجديد. هذا البيت ليس له جدران. كله نوافذ. أداة المعرفة الجديدة، المطبعة التي اكتشفها غوتنبرغ في أول الربع الأخير من القرن الخامس عشر، منعتها الدولة العثمانية. بقي الدين نخبوياً. بقيت النخبة طبقة مغلقة منعزلة عن مجتمعها، في حين انفتح مجتمع الغرب على نفسه، ولم يبق الكتاب المقدس المسيحي حكراً على الاكليروس. لكن القرآن بقي خارج متناول العامة. ثم جاءت الصحيفة الأسبوعية واليومية في الغرب لتجعل المعرفة معممة؛ وهذا أساس كل ديموقراطية.
يتمرد المجتمع عندما يخرج من ذاته. يخرج من الماضي ويدخل في التاريخ. التاريخ هو صنع الإرادة. تحرر الذات الفردية من المجتمع، وتحرر المجتمع من كل سلطة، بما في ذلك سلطة الماضي وأمجاده. يتحرر المجتمع بتمرده على ذاته. ويصير للروح زمان تنتقل فيه من مرحلة الى أخرى. لا يرى المستقبل إلا بهذا الانتقال. وهذا تطوّر. عندما يبقى المجتمع في مرحلة واحدة عبر الأجيال، يستنقع في مياه الماضي الراكدة. يكون التمرّد بالمعرفة، وبالعلم الحديث، وبالملاحظة، وبالتجربة، وبالجرأة على اقتحام المستقبل والدخول في ما اعتاد على أن يكون مجهولاً.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق