هذه ليست لحظة ضعف أو تصحيح قناعة أو تكفير عن ذنب، هي لحظة اجتهاد في التحليل ومحاولة جديدة لتعميق الفهم. لم يستجد شيء، على كل حال، يجعلني أبدل موقفي من الرئيس دونالد ترامب. لم يستجد شيء يجعلني أصدق ما يقوله وأطمئن إلى مستقبل بلدي في ظل وجوده وأغير اقتناعي بأنه الرئيس الذي انحرف بأمريكا فلن تعود كما كانت.
لن أنتظر مع ملايين تنتظر مثلي وثيقة يصدرها المحقق روبرت موللر تؤكد وجود شبهة اتهام للرئيس دونالد ترامب بأنه أتى أعمالا تقع تحت طائلة مواد في القانون الأمريكي تتعلق بخيانة الوطن. أظن، وأنا هنا لا أستبق الأحداث ولا أملك معلومات موثقة، أن أجهزة روسية ركزت جهودها على هذا الرجل قبل أن يعلن الحزب الجمهوري اختياره مرشحا عنه لمنصب رئاسة الجمهورية الأمريكية. تابعت بالدقة الممكنة كل كلمة نطق بها كاشفا عن نواياه إن هو وصل إلى الحكم. قرأت الأجهزة الروسية مواقفه ودرستها واستمعت إلى آرائه وتحليلاته واستفسرت عن ميول واتجاهات أصدقائه ومستشاريه من صناع الرأي والفهم السياسي. فعلت، فيما أتصور، كل هذا وأكثر منه على امتداد سنوات قبل أن تضع تقديرها وتسجل توصياتها وترفعها إلى الرئيس فلاديمير بوتين.
فعلت من ناحيتي، بمعاونة مساعدين أكفاء، ما تصورت أن الأجهزة الروسية فعلته. ليس بالتفصيل ولا الدقة ولا الشمولية ولا اقتحام الخصوصية التي لاشك اتسم بها عمل الأجهزة الروسية ولكن بانتقائية توفر التغطية الأمثل لقدر مناسب من المعلومات المتاحة. جمعنا ثم قرأنا وحللنا وفي النهاية قررنا أننا لو كنا في مكان المسؤولين الروس لرفعنا توصية إلى الرئيس بوتين بأن نقدم لهذا المرشح كل ما نملك من قوى الدعم، مستترين وراء أحدث أساليب التدخل واختراق المجتمعات. كنا سنقول لرئيسنا في الكرملين أن لن يدخل البيت الأبيض في الأجل المنظور رئيس يخدم مصالح روسيا كما يمكن أن يخدمها بليونير عقارات من نيويورك كان يحلم بالمنصب ورشح نفسه وأدار حملة انتخاب مثيرة وفاز فيها. سنقول له أيضا أننا “لو كنا زرعنا عميلا لروسيا في الولايات المتحدة، زرعناه طفلا ورعيناه مراهقا ومولنا مشاريعه عبر العالم عندما نضج وصار معروفا، لما انتهى مخلصا لمصالح ومؤمنا بأفكار وخطط هي نفسها المصالح والأفكار والخطط التي نعمل تحت قيادتكم الرشيدة من أجل تنفيذها اليوم في الولايات المتحدة بل وفي العالم بأسره”.
أثبت الرئيس ترامب أنه كمرشح ثم كرئيس أبدع في شق الرأي العام الأمريكي، لا يوازيه في هذا الشأن مرشح أو رئيس آخر، على الأقل حسب ما أذكر، وما أذكره كثير فأنا متابع عن بعد لانتخابات رئاسة أمريكية تمتد إلى عهد أيزنهاور وشاهد عن قرب على عدد لا بأس به. رأيناه في أثناء الحملة يشعل كره النساء وغضب الأسيويين وخوف المسلمين ويثير الشك في الأمريكيين من أصول إفريقية ولاتينية وأحفاد الهنود الحمر. كنا شهودا على مجتمع اكتملت لديه فجأة الظنون ليس فقط ضد هيلاري كلينتون ولكن أيضا ضد بقية المرشحين المنافسين بل وضد قيادات الحزب الجمهوري ورموز الطبقة السياسية وهو ما لم يفعله، أو يجرؤ على فعله مرشح سابق يزعم تمثيله مجتمع المحافظين الأمريكيين.
دأب ترامب كمرشح ورئيس على توجيه الانتقادات الحادة أحيانا والساخرة أو مشبعة بالإهانة إلى السياسيين الأوروبيين بل إلى معظم حلفائه. حتى الكنديين لم يسلموا من لسانه ولدغات تغريداته الصباحية. سمعت دبلوماسيين وأكاديميين أوروبيين يعترفون أنهم لم يشهدوا وضعا نفسيا لقادة الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي كالوضع الذي تدنوا إليه منذ جاء الرئيس ترامب إلى الحكم. تسربت إلى اجتماعاتهم الشكوك في قدرة الحلف الغربي على التصدي عمليا وأيديولوجيا للسياسات الخارجية للرئيس بوتين، وبخاصة في دول الجوار الروسي وأوروبا الشرقية.
هناك ما يقترب من إجماع الخبراء حول رأي يزعم أن الحلف الغربي دخل مرحلة الأزمة الحقيقية في مسيرة انحداره. أوروبا لم تشعر بانحسار دورها مثلما شعرت وهي تحت قيادة الرئيس ترامب. حتى الوحدة الأوروبية كفكرة ومؤسسات لم تسلم من حملة الكره والاستخفاف التي شنها ضد أوروبا واهتمامها بالديموقراطية وبالمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومؤتمرات المناخ وحرية التجارة. كانت لحظة اندهاش حين رأينا الرئيسين الروسي والأمريكي يشجعان كل على حدة قادة الشعبوية الأوروبية الجديدة على الفوز في الانتخابات البرلمانية. جاء هذا الفوز في معظم الحالات على حساب الأحزاب التي قام عليها النظام الديموقراطي والاستقرار السياسي الأوروبي.
وعد في وقت مبكر بالخروج من سوريا، ومن الشرق الأوسط كله وأفغانستان. استثنى إيران لالتزامات عقدها مع شركاء يهود في مهنة العقارات وأصهار يهود في العائلة وقيادات مخلصة لإسرائيل في الطائفة الإنجيلية التي سوف تصير قاعدة له في حكم البلاد. لم ينسق مع حلفاء أمريكا حول من يسد الفراغ في كل ساحة تخرج منها أمريكا. انتهى الأمر تخبطا رهيبا في السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، كان للتخبط أثره في معنويات الحكم في معظم عواصم العرب وحتى في إسرائيل. فجأة وجدت إسرائيل نفسها في موقع مسؤولية إقليمية لم يحلم به الصهاينة العظام وعلى خط تعامل مباشر مع قوى عظمي ودول أقليمية لها مصالح في الإقليم بعضها متصادم جوهريا مع مصالح الدولة اليهودية.
أغضب المؤسسة العسكرية ونجح في مد شرخ معها ظل يتمدد ويتعمق مع مرور الوقت ومع تبدل جنرالات على منصب رئاسة لجنة الأمن القومي في البيت الأبيض. كلهم وغيرهم في مؤسسات صنع السياسة الخارجية أثبتوا، حسب رأيه، أنهم ليسوا على مستوى فهمه الاستراتيجي.
صحيح أنه لم يخطئ مع المؤسسة العسكرية أخطاء توازي أخطاءه الرهيبة التي ارتكبها في حق مؤسسة الاستخبارات بأفرعها الثلاثة الرئيسة وهي مكتب التحقيقات الفيدرالية ووكالة الاستخبارات وجهاز الأمن القومي. زرع الخلافات فيها وأهانها أمام الشعب الأمريكي، والأدهى أنه أصاب كرامتها وسمعتها بين عديد أجهزة الاستخبارات في العالم وبخاصة في الحلف الغربي وروسيا والصين. لم يحدث على امتداد العلاقة الروسية الأمريكية أن اتهم رئيس أمريكي أجهزته الاستخباراتية بالسذاجة والجهل فيصيبها وهي أحد أهم أذرعته في سباق أمريكا مع روسيا والآن مع الصين بالضرر الكبير في معنوياتها وفاعليتها.
أتحدث كثيرا مع خبراء في تحليل تطورات العلاقات بين الدول وبخاصة ما تعلق منها بالشرق الأوسط. لا أبالغ وأنا أكشف عن انطباع هام وسائد لدى عدد كبير منهم. يعتقدون أن الرئيس ترامب أساء إلى حلفاء أمريكا من العرب إساءات لا تغتفر. أساءت أمريكا في السابق ولكن ليس كإساءات ترامب. يعتقدون أيضا أن أمريكا تحت رئاسة ترامب، وهي تتصرف كطفل يلهو في المنطقة كما يلهو طفل بقطع شطرنج فوق لوحته، لن تخلف وراءها للعرب سوى التزامات هشة لن تتحمل قسوة القائم كما القادم من عواصف وأنواء، في مقدمتها تبعات وتداعيات الانفراد الروسي بالهيمنة على الإقليم ومنها أيضا غياب مرجعية عربية تتناسب ونوع التحولات في الإقليم وفي العالم الخارجي.
أعود إلى حيث بدأت. لو أنني في مكان فلاديمير بوتين رئيسا للاتحاد الروسي أقرأ تقدير موقف أعدته أجهزة التحليل والتقدير في الكرملين عن شخصية رجل العقارات المرشح لرئاسة الجمهورية الأمريكية وتوقعاتها بشأن أسلوب إدارته دفة الحكم والسياسة والاقتصاد، لكان قراري ادعموه بكل الوسائل الممكنة حتى المحظور منها. ولو عادوا اليوم بتقرير جديد عن إنجازاتهم خلال عامين وأكثر لطلبت منهم ومن كافة أجهزة العمل الدبلوماسي والعسكري الاستمرار في دعمه ضد خصومه في الداخل كما في الخارج. لقد حقق هذا الرجل لنا، دون طلب منا أو تكليف، إنجازات في سياساته الخارجية والداخلية ما لم نحلم به منذ أيام لينين وستالين. أثار في صفوف الأمريكيين أحقادا جديدة ضد بعضهم البعض وأنعش الكراهيات القديمة. أعاد إلى شعوب الجوار اللاتينية مشاعر تمردها ضد أساليب الجار الأبيض المهيمن والمستغل. أهان حلفاء أمريكا الأوروبيين وأضعف حلف الأطلسي عدو روسيا اللدود وشجع على تفكيك الاتحاد الأوروبي وعزز الخلافات بين أعضائه. استهلك أرصدة هائلة لإشعال صراع مبكر مع الصين وتحويل أنظار الصينيين بعيدا عن روسيا. تخلى لنا عن الشرق الأوسط بدون إطلاق رصاصة واحدة أو إثارة العقبات في وجهنا ولم يتبق لنا إلا أن نساعده ليتخلى بالسرعة المناسبة عن أفغانستان ثم عن آسيا برمتها.
نعم، هذا الرجل لم يخن بلاده ولم يتواطأ مع روسيا.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق