لا أعرف ولا أخمن شكل ومحتوى أوروبا خلال السنوات القليلة القادمة. كنا حتى وقت غير بعيد نعرف أو نراهن فنخمن وفي الغالب نكسب الرهان. لم يكن مستقبل أوروبا غيبا كاملا على من يريد استقراءه. كانت أوروبا، في بحوث الدارسين كما في إعلانات السياحة ورحلات محبيها وأجندات السياسيين، قارة تتغير وهي على حالها. هكذا كانت بالنسبة للكثيرين. كنت واحدا منهم ولكن حتى وقت قريب. أوروبا منذ عاشرتها شابا كانت تتغير وأنا أيضا كنت أتغير، وفي كل مرة توقفت أمامها ومرآتي في يدي رأيتها تغيرت ولكن باقية على حالها ورأيتني تغيرت ولم أبق على حال.
كنت أقرأ عن استعدادات الرئيس ماكرون لاستضافة جماعة الدول الصناعية في منتجع بياتريز خلال الأسبوع الراهن عندما ألحت الفكرة مرة أخرى ولكن في سياق جد مختلف بتفاصيل جد مختلفة. كنا عندما نفكر في أوروبا نأتي فورا على تأكيد ركائزها الاستراتيجية وهي، أولا: مشروع الوحدة الأوروبية كما تبلور في عهد المستشار كونراد أديناور متأثرا بحرب السويس وبفكرة تجمع دول البنلوكس ومن قبلها الإصرار الألماني الفرنسي على عمل مشترك يراقب إنتاج الفحم والصلب في الدولتين.
ثانيا: الديجولية، بمعنى “أوروبا الواحدة من دول ذات سيادة”. سواء كانت الديجولية مبدأ فاعلا أو شبحا جاثما أو هدفا عند الأفق لم يتمكن سياسي أوروبي من التنكر لها أو تجاهلها. تعني استقلالية القرار الأوروبي في إطار الحركة والنوازع الأطلسية. معضلة لم تجد بعد من يجد حلا لها.
ثالثا: الأطلسية، بمعنى هل تكون الأولوية للاتفاقات الأطلسية، أي ضمن الحلف الأطلسي أم لالتزامات الوحدة الأوروبية. تغيرت أوروبا في أشياء كثيرة ولم تتغير هذه المعضلة الجوهرية، إلا إذا كنت على حق في القول إننا بدأنا نلمس إعادات نظر جادة إليها. أعود هنا بذاكرة المتابعين إلى الخلاف الشهير الذي وقع عند توقيع اتفاقية الإليزيه بين فرنسا وألمانيا في عام 1963 عندما أصر الجانب الألماني على إضافة عبارة تؤكد أولوية التزامات الأطلسي على التزامات واردة بهذه الاتفاقية. جرت مياه تغيير غزيرة في مجرى التكامل الأوروبي وعاد الطرفان الألماني والفرنسي لتوقيع اتفاقية ثنائية جديدة في مدينة آخن خلال العام الجاري. هذه المرة لم يقع خلاف، جاء الاعتراض شكليا على لسان مسؤول ألماني من خارج صف القيادة يتساءل، فقط يتساءل، إن كان في هذه الاتفاقية الثنائية ما يتعارض مع الالتزامات الأطلسية للدولتين. هناك تغيير لا شك فيه حتى أنني لا أظن أن هناك في حكومة السيدة ميركل من لا زال يطرح المعضلة في شكل خيار بين من يعتقدون أن علاقات أوروبا مسألة ضرورية ومن يعتقدون أنها مسألة وجودية. كانت ميركل نفسها من أنصار وجودية العلاقة هي وأسلافها جميعهم، أو أغلبهم.
رابعا: أوروبا جزء من الغرب وأمريكا القائد. كلاهما، ألمانيا وفرنسا، يعتبران أوروبا جزءا من الغرب ولكنهما لم يقفا على خط واحد إزاء قيادة أمريكا للغرب إلا مؤخرا. إحقاقا للحق لم يكن وراء التغيير تطور أوروبي بل جاء وللمفاجأة من أمريكا. كانت واشنطن هي البادئة بالتخلي عن الأطلسي. دخل رئيسها في مواجهات حادة مع السيدة ميركل ومع أكثرية أعضاء الحلف. أظن أن ترامب نجح في التأثير بالسلب على كبرياء ألمانيا، الدولة الأوروبية التي دافعت عن الأطلسية، أي عن قدسية العلاقة الأوروبية مع أمريكا أكثر من أي دولة أخرى، وربما أكثر من بريطانيا. أضف النشاط المتنوع الذي قام به عملاء الرئيس ترامب في أوروبا ضد استقرار حكومتي ميركل وماكرون وتشجيع القوى السياسية المتطرفة قوميا وعنصريا والتدخل في الانتخابات السياسية لصالح أحزاب تناهض فكرة ومشروع الوحدة الأوروبية. تطورت الأمور إلى الأسوأ حين شن الرئيس ترامب ما يشبه حربا تجارية ضد ألمانيا وضد سياسات تجارية لدول أوروبية أخرى. لم يتشاور مع زملائه قادة الغرب حين قرر إلغاء الاتفاق النووي مع إيران من طرف واحد، ولم يستشرهم عندما قرر فرض عقوبات على شركة هواوي للتكنولوجيا المتقدمة. كان أقرب إلى خصوم أوروبا الموحدة حينما شجع علنا وبوسائل شتى حكومة لندن على العمل على خروج بريطانيا من أوروبا، متسببا في الغالب في كارثة لأطراف عديدة، ومتآلفا رمزيا على الأقل مع روسيا الخصم اللدود للاتحاد الأوروبي.
خامسا: عالم مستقر نسبيا بدون مفاجأت كبرى متوقعة تهدد مصير الاستراتيجيات الأوروبية الأساسية. رأينا أوروبا تقيم تكاملها معتمدة، بين أشياء أخرى، على انتقال متدرج ومنضبط لكل مكونات تطور النظام الدولي. سقوط الشيوعية وانفراط الاتحاد السوفييتي وانضمام دول شرق ووسط أوروبا لمشروع الوحدة الأوروبية وتوحيد ألمانيا وغزو أمريكا أفغانستان باسم الأطلسي ثم العراق، هذه جميعا وغيرها جرت من دون أن تشكل إحداها أو بعضها تحولا ثوري الطابع في النظام الدولي القائم بشكل يهدد سلامة وسياسات كل من ألمانيا وفرنسا واستقرار الاتحاد الأوروبي.
تغيرت معالم هذا الاستقرار النسبي عندما اجتمعت في وقت واحد تقريبا ثلاثة تطورات فاجأت بقوتها واجتماعها القوى الأوروبية الأساسية. هذه التطورات هي (أ) تحول الصين من قوة اقتصادية صاعدة إلى خطر اقتصادي وعسكري يهدد مصير أوروبا. (ب) عودة روسيا من وضع الدولة المشاغبة إلى وضع الدولة العدو (ج) تحلل الولايات المتحدة من مسئوليات الحلف الأطلسي ومبادئ التعددية الدولية ودعم المؤسسات متعددة الأطراف. أظن أن اجتماع هذه التطورات كان كافيا ليس ففقط لتغيير استراتيجية أوروبا الأمنية والاقتصادية، بل لعله يقف وراء كثير مما تشهده العواصم الأوروبية من أوضاع غير مستقرة.
نعم… تغيرت أوروبا كما لم تتغير من قبل ومع ذلك بقيت في نظر الكثيرين على حالها. أمريكا تغيرت على يد دونالد ترامب ولم تبق على حالها. الصين تغيرت ولم تبق على حالها، حتى إنجلترا الدولة التي بقيت على حالها عبر القرون رغم كل التغيرات التي أحاطت بها، أظن أنها لن تبقى بعد أزمة البريكسيت على حالها، فالكارثة أشمل وأخطر من أن تمر دون أن تخلف شقوقا لا ينفع معها ترميم أو بعث جديد.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق