خطر خاطر مرات غير قليلة خلال الأعوام الأخيرة يدعوني إلى أن أهدأ وأتوقف عن القلق على بلدي وعلى البلاد القريبة عاطفيا من بلدي وعلى سلام العالم الخارجي. كانت حجته، وأقصد حجة الخاطر هذه المرة، بعيدة عن واقع الأحوال ومنطق التطورات، وتتلخص في كلمات قليلة يرددها الزوار أمام مرضى الحالات المستعصية، مفادها أن الأطباء يعرفون ما يفعلون وقادرون على وقف الألم وربما إصلاح ما فسد. في زمن ولى، ولم يعد، كنا نهز الرؤوس علامة الموافقة ونقول: نعم لا شك أن هذا النفر من الزعماء الذين يحكمون ويخططون ويقررون لن يتركوا العالم يحترق وهم المسؤولون عنه وعن سلامة شعوبهم وهم الحريصون على بقاء دولهم. كنت من المتفائلين الذين وإن كرهوا الكثير من سلوكيات القوة والغطرسة الأمريكية والسوفييتية والكثير من تصرفات وتهورات حكام العالم الثالث إنما يثقون في كفاءة مبدأ توازن القوة في العلاقات بين الدول وقدرته على فرض نفسه ونجاحه في تفادي نشوب الحروب في حالات كثيرة وليس في كل الحالات بطبيعة الحال.
بدأ تفاؤلي يتناقص مع انهيار القوة السوفيتية. عزز هذا التناقص التوحش الذي أصيبت به دوائر التخطيط الدفاعي في البنتاجون والبيت الأبيض في عهد الرئيسين بوش وبخاصة ولاية بوش الصغير. بدأت المرحلة بوهم إقامة نظام دولي جديد على أساس القطبية الأحادية. وقتها انتهى التاريخ بالنسبة لمفكرين وسياسيين أمريكيين وانتشر الهوس. ثم ازدادت الأمور سوءا عندما انعكس الهوس الديني على السياسة الخارجية الأمريكية وتوسع المحافظون الجدد في احتلال المناصب وتوجيه السياسة والنصح بشن الحرب وبالمناسبة كان جون بولتون وقتها متدربا في مكاتبهم. عرفت وقتها أن فرص العنف في السياسة الدولية سوف تزداد. بالفعل سمحوا للتطرف الإسلامي بالتغول. دمروا العراق بعد أن شجعوا رئيسه ودعموه في حربه ضد إيران وتحكموا في توازنات القوة الإقليمية بما يخدم أهداف إسرائيل.
ما يهمني الآن ويقلقني في نفس الحين أننا نكاد نرى القصة تتكرر بتفاصيلها القديمة المذهلة وتفاصيل جديدة مؤلمة. مرت فترة هامة في التاريخ المعاصر شهدنا فيها بدايات الصعود الصيني على المسرح العالمي. لم يهتم العالم كثيرا ببدايات هذا الصعود وكانت بطبيعة الحال داخلية في معظمها فلم يقدرها العالم الغربي حق قدرها.
كنت أحد الذين تمنوا في قرارة النفس أن لا تحاول الولايات المتحدة تخريب الصعود الصيني كما حاولت من قبل مع روسيا في عهد الرئيس بوريس يلتسين. مع روسيا اهتمت أمريكا والغرب عموما بالرقابة على مخزونات أسلحة الدمار الشامل وتفكيك المؤسسات الشيوعية ودعم الكنيسة والقوى الدينية. مع الصين لم يحدث شيء من هذا لأسباب ثلاثة على الأقل، أولها، هرولة أسواق المال والتجارة على أسواق الصين للاستثمار، ثانيها، الحاجة الأمريكية الماسة إلى عمالة رخيصة في ظروف ممتازة فانتقلت لتعمل في الصين شركات ومصانع وبيوت خبرة، ثالثها، غرور القوة لدى العسكريين والشعور بأن الفارق الزمني بين القوة الصينية والقوة الأمريكية يقاس بالقرون وليس بالعقود. لهذه الأسباب ساد لدينا أمل كبير في أن العالم بخير طالما استمرت الصين تصعد برفق واستمرت أمريكا تنحدر برفق. تفاءلنا لأن توازنا في القوة سوف يتحقق من تلقاء نفسه بين دولة صاعدة تسعى لمكان متميز في القمة الدولية ودولة تنحدر من مكان “متخيل” كمكان الدولة الأعظم إلى مكان أقل شأنا. كان التوازن في القوة بين الدولتين كفيلا في نظرنا بتحقيق سلام دولي سوف يأخذ في أسوأ أشكاله سمات الحرب الباردة وفي أحسنها التعاون لبناء نظام دولي جديد، نظام يسمح للصين بأن يكون لها دور رئيس في صياغته.
أمور كثيرة ليست في موقعها الصحيح، أو أنها لم تسلك مسارات توقعها المتفائلون أو المنظرون. أعرض في السطور التالية بعض هذه الأمور التي أخشى أنها إذا استمرت قد تتسبب في صنع مزيد من القلق أو تؤدي إلى الانزلاق نحو عنف تمناه قليلون ويحاول كثيرون تفاديه أبدا.
أولا بالتحول في السياسة الخارجية الأمريكية من حال استقرار معقول إلى فوضى أظن أن جانبا منها متعمد. الجزء الذي يهمنا هنا هو الخاص بالحرب التجارية المفاجئة التي أعلن الرئيس الأمريكي شنها على الصين. هذه الحرب بالإضافة إلى أعمال أخرى في جنوب شرق آسيا وتطورات في أوروبا وروسيا أقنعت الرئيس شي بضرورة تسريع مسيرة الصعود إلى القمة الدولية. وقد حدث. خشيتي الكبرى وقد أفصحت عنها مرارا هي أن ينتج عن التحول من التدرج إلى القفز فوق مراحل أخطاء في التطبيق. هذا أيضا يحدث. العالم يرقب خطوات الصين بقلق وخطوات أمريكا بهلع.
ثانيا أفريقيا، ساحتنا الخلفية، تعود بسرعة رهيبة ساحة تسابق بين دول عديدة. من هذه الدول من جرب الاستعمار من مواقع القوة وادعاء التفوق العنصري ودول جربت منه جانب الهيمنة وتتدخل الآن في أفريقيا لتجرب الجوانب الأخرى للاستعمار ودول كانت في جزء من تاريخها ضحية استعمار وها هي تاتي باستثمارات هائلة ومشاريع بنية تحتية. صنف رابع من الدول يغامر الآن في أفريقيا بدون أي خبرة سابقة في الاستعمار، حجته أنه يملك ثروات تشتري نفوذا. لا أحد ينبه دول هذا الصنف إلى حقيقة أن الاستعمار مسألة شديدة التعقيد ومتعددة المخاطر وقد أشعل حروبا حيثما وجد. أخاف من كل صور هذا الاستعمار الجديد في أفريقيا. أخاف من عنف في قارة عادوا إليها ليستأنفوا تجفيف منابع ثرواتها ويسخروا من شعوبها أو يسخروها ثم يرحلوا. أخاف على أفريقيا من هؤلاء، وأخاف أكثر على أفارقة من أفارقة لم يعودوا أفارقة .
ثالثا، أوروبا في حالتها الراهنة غير مؤهلة للدفاع عن نفسها، وفي الوقت نفسه غير مستعدة للعودة إلى وضع الحليف المطيع. بفضل هذه الطاعة حمت الولايات المتحدة مصالحها وعززت دفاعاتها وبفضل هذه الحماية استعادت أوروبا الغربية قدراتها الصناعية والإنتاجية وعادت متفوقة. هذا الوضع لن يتكرر. التهديد ماثل وفي رأيي متفاقم من جانب تيارات وقوى سياسية تبحث عن بديل أو بدائل لأنماط حكم لم تعد قادرة على تجديد نفسها وإرضاء شعوبها. لا يجب أن ننسى الدور الذي يمكن أن تلعبه أجهزة التدخل الإلكتروني الروسية والصينية من الآن فصاعدا في أدق تفاصيل الحياة السياسية في أوروبا. نراه بوضوح في كارثة البريكسيت وبوضوح أقل في أزمة إيطاليا وأزمات أخرى.
رابعا، عن الشرق الأوسط أريد أن أكتب الكثير الكثير. تخرج الكلمات ثقيلة، هذا إن خرجت. ماذا أقول. أأقول للشعوب العربية وقادتها أن انتهي عصر المعجزة؟. الإقليم من أقصاه إلى أدناه ما زال يعيش حالة عنف لم تتوقف منذ انتهت الحرب العالمية الثانية. فشلنا في إقامة نظام إقليمي يحمي أمن شعوبنا ويحقق رخاء عاما ومشتركا ويقيم قاعدة إنتاجية تثمر رخاء في سلام. لم نحقق الرخاء العام ولم تحصل شعوبنا على الحماية وتدحرجت مكانتنا أمام جميع الخلق ولم ننعم بلحظة سلام. يجرح مشاعري ومشاعر عرب كثيرين سخريات الرئيس ترامب اليومية والمتفاوتة للعرب، ويجرحها مرات ومرات الرئيس بوتين بلقاءاته شبه الدورية بحكام غير عرب للتداول في شؤون العرب ولا عربي فيها.
الأموال والثروات كعادتها أسبق في الفهم وأقدر فخرجت من كل بلادنا وبعدها هاجرت العقول. من يعيدها وماذا يعيدها وليس على أرضنا مشروع عربي للنهضة وليس على حدودنا الإقليمية مع الجوار دفاعات تحمينا وليس في قدرتنا السياسية مجتمعة أو منفردة وقف السباق لتصفية فلسطين وإغلاق ملفات قضايا وحقوق أخرى كثيرة.
البوادر بالفعل غير طيبة.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق