بلادنا مُستباحة، أرضاً وجواً وبحراً. وهي كذلك مُستباحة وعياً ومجتمعاً وممارسة سياسية. منذ سنوات كتبنا حول عودة الاستعمار، واليوم نكتب حول الاستباحة واغتصاب المنطقة، مكانياً، وزمانياً، وجغرافياً، وتاريخياً.
معنى الاستباحة هو فقدان الإرادة. فالاستقلال شكلي. والخضوع للإرادات الخارجية فعلي واقعي. وما من رقعة في أرضنا إلا وهي خاضعة ليس لواحدة فقط من القوى الخارجية، بل لقوى عديدة. فالاستباحة هي تعددية الاستعمار فوق رؤوسنا.
تُجيد نُخبنا السياسية “الكلامولوجيا”. كل ما وعدونا به، لم ينتج عنه إلا القليل من الفعل. وما منظر أرتال السيارات المحملة بالنازحين وعائلاتهم، في الأيام الأخيرة، إلا شاهدٌ على ذلك.
الألم يعتصرُ قلوبنا، ليس بسبب الهزيمة وحسب، بل لأن المناشير الإسرائيلية تعلمنا متى نرحل، وهي تقرر نزوحنا. وما باليد حيلة. لقد بلغ بنا الرعب أننا صرنا نتجنب ركوب السيارات الرباعية الدفع، خوفاً من ردة الفعل الإسرائيلية. فما لديها من أجهزة تجسس وأدوات حرب دقيقة، ولؤم مستأصل في الصهيونية، يجعلنا لا نأمن ولا نطمئن على سلامتنا أينما كنا ومهما كنا، إلا بالامتثال للمناشير في موسم الرحلة إلى الشمال. كما انتعشت حركة تأجير البيوت للنازحين، إضافة إلى فتح المدارس والأبنية العامة للإيواء. كل ذلك يُدمي الروح ويملؤها حزناً وغضباً لأعماق تفوق فعل الهزيمة والشعور بالعجز.
لقد أصيبت الكبرياء اللبنانية، وتأتي “كلامولوجيا” الخطابات والتبريرات عبر الشاشات لتنكأ الجراح. ما أصاب قطاع غزة والضفة الغربية في فلسطين يُصيبنا. فكأننا خُلِقنا للحزن وطأطأة الرؤوس. وما يزيد الطين بلّة أن النزوح ليس فقط إلى الشمال، بل يتجه بعضه إلى سوريا، التي منها كان قبلاً النزوح إلى لبنان. فقد تحوّل التضامن العربي إلى نزوح متبادل. هناك تجارة بينية، كما كان التعبير عن التبادل التجاري بين دول العرب طريقاً للتكامل الاقتصادي، وصار النزوح البيني طريقاً لتكامل العيش المُهان والروح المضروبة في صميمها.
بلادنا مُستباحة، وهذا ليس وقت الإشارة إلى أحد بالملامة أو التقريع. فما يُقال هنا هو من باب البكاء على الأطلال. أطلال ايديولوجيا وممارسات ما زلنا نكررها منذ أواخر الأربعينات، إذ أن منطق الهزيمة كان وما يزال هو الوجه الآخر لانتصاروية الكلامولوجيا التي ما زالت تتحكم بنا fرغم ما يبدو غير ذلك. ربما وصل هذا المنطق الى نهاياته فانفجر بؤساً وذلاً. وكل منطق يدفع إلى نهاياته بشكل أو بآخر. ولا بدّ من ذكر قول الشاعر:
فقل للشامتين بنا أفيقوا/ ستلقون غداً ما قد لقينا
كاتب هذه السطور لا يعتبر نفسه على المقلب الآخر. فكل من لديه ذرة شرف وكرامة وعقلانية عليه أن يكون في صف المواجهة مع إسرائيل. والذين يقاومون هم شعبنا مهما اشتد الكرب وبَعُدَ الفرج. نحن جزء من هذه الذات الجماعية المقاومة، وكل ذات لا بدّ أن يتسرّب إليها الشك والظن بما يظهر. وقد درج الفقهاء على القول إن اليقين غلبة الظن.
ليس الأمر أن حساب البيدر جاء مغايراً لحساب الحقل، بل هو أن حساب الحقل الذي لدينا يؤخذ بمعزل عن الحقل الإسرائيلي الذي لم تتخل الولايات المتحدة يوماً عنه، خاصة عندما يكون معتدياً. علماً بأن الوجود الإسرائيلي بحد ذاته ومن أساسه اعتداء على فلسطين واغتصاب لأرضها وشعبها.
في ميزان القوى الدولي والجيواستراتيجيا:
الولايات المتحدة تحكم العالم.
الوطن العربي يمتد على أكثر من نصف شواطىء البحر المتوسط.
ربما كنا البقعة الأهم في العالم استراتيجياً، بخاصة أن الموارد الطبيعية كثيرة. فلسطين ذات أهمية استثنائية والوجود الإسرائيلي استجابة لما يعتبر ضرورات الامبريالية العالمية.
تشبه بلادنا ملعباً واسعاً يمتد من الخليج إلى المحيط، وأرضاً واسعة، يلعب فيها من يشاء، ويصنع فيها ما يشاء من اللاعبين الاقليميين والدوليين إلا أهلها، فهؤلاء لا مهمة لهم سوى تعشيب الملعب كي يستخدمه الآخرون.
يعبر عن هذه الاستباحة أننا ما أن يجتمع بعضنا لمناقشة أوضاعنا حتى يجمعون على أهمية وأولوية المخططات والبرامج الجيوستراتيجية. الخارج لا الداخل هو ما يُقرر مصيرنا.