شرف لي أن أعتلي منبر هذه المؤسسة المتميزة بعطاءاتها، جمعية التخصص والتوجيه العلمي، لأشارك مع بُناتها وروادها الميامين في من يعتبر تكريمها شرفاً للمساهمين فيه.
لقد أكدت اميلي نصرالله بإبداعها المتنوع والغزير والمتميز بالرقي، كما بخلقها الرفيع واصالتها التي ثبتت دائماً، رفعة ورقة على مر الازمنة التي كانت شاهدة عليها،
أيها الاخوة،
لست محايداً.. وأكره البرودة في الحديث عن الابداع، وما أقل المبدعين. ثم انني متعصب لأصولي البعلبكية الريفية بقدر تعصب صديقة العمر، بنت الكفير التي تمسكت بلهجتها الاصيلة، والقاف فيها ومنها، حتى وهي تبدع أروع الروايات وأرقها بالمشاعر الانسانية من دون أن تغادر اصولها وبيئتها وأهلها الذين يعتزون بتكريمها، كما تكرمون، ويجعلون من بيتها متحفاً بسيطاً ولكنه غني بالحب والتقدير والاعتزاز بهذه المبدعة التي حولت منطقتهم من نكرة إلى مصدر للإشعاع والفخر.
والبيت بخغرافيته هوية كاملة: فأمامه فلسطين، وظهره إلى حرمون والشام من بعدها، أما الغرب ففيه ينداح سهل البقاع لتعبر منه عبر جبل لبنان إلى بيروت عاصمة الكتاب والقلم.
لقد ارتقت اميلي نصرالله إلى العالمية، ولكنها ظلت هي، ببساطتها ومشاعرها الانسانية، واخلاصها لأهلها، وبالذات لأسرتها المبعثرة بين القارات، وبيتها العابق بالمحبة والحنان،
أيها الاصدقاء،
ما أجمل تاج الشيب وهو يكلل الإبداع..
ما أبدع الذاكرة وهي تحفظ في الشيخوخة تاريخ الصبا، فلا تنسى صديقاً ولا تهمل واقعة تجمل الحياة باستعادة رفاق العمر والكتابات الأولى التي تبقى محفورة في الوجدان حتى لو نسيها الآخرون.
ما أبهى اميلي نصر الله وهي تتخطى ثمانينها بسنوات ويبقى قلبها نابضاً بحب الناس، كل من صادفتهم فصادقوها وتقربوا منها معجبين بشخصيتها التي أضاف اليها قلمها ألق المحبة والإيمان بالإنسان.
أميرة الكلمة، خط النور الذي يغمر بلاد الشام، بسوريا وفلسطين ولبنان، وعلى خط التواصل بين الأديان والطوائف والمذاهب .. وربما لهذا لم تعرف الطائفية، ولا هي عرفت التعصب الجهوي.
هي جنوبية ـ بقاعية ـ “بيروتية” بمعظم عمرها في عاصمة الكلمة. وهي “مصرية” عبر التحاقها برفيق عمرها فيليب الذي سيغير كنيتها من أبي راشد الى نصر الله، وأبنائها الذين انبتوا الصحراء ورداً وزيتوناً وعنباً وخمراً وديوكاً زاهية بألوان أعرافها فوق ريشها المزركش ورؤوسها المرفوعة افتخاراً أمام جواريها اللواتي يتزاحمن عليها..
وهي “كندية” بعد استقرار معظم أهلها فيها وإنشائهم “الكفور” الثانية، اميلي نصر الله عرفتها أول مرة، محررة في مجلة “الصياد” في الحازمية تخضع لرعاية سعيد فريحة المباشرة، وتعمل بدأب بحيث تكاد لا ترفع رأسها عن أوراقها، حتى إذا ما انتهت من تحرير “بابها” في المجلة، انطلقت الى الجامعة الأميركية في بيروت بغير أن تتلفت حولها حتى لا تخدش حياءها الريفي الذي سبقها الى العاصمة.
وبرغم حيائها الصامت، وخجلي من احراجها اذا ما أضفت كلمة الى تحية الصباح، فقد غدونا ـ بشكل ما ـ اصدقاء .. ربما لأنها أحست انني أقدر دأبها وسلوكها “المحافظ”، وربما لأنها كانت تنتبه الى انني أعمل ـ منفرداً، تقريباً، لإصدار المجلة، وبمرتب يدفع أقساطاً بحيث يصل الشهر التالي قبل أن يكتمل حصولي على راتب الشهر الماضي.
بعد ذلك ستتباعد المسافات بيننا بعدما تركت “الصياد”. ولكنني حين عدت اليها، بعد سنتين إلا قليلاً، وجدت الآنسة اميلي أبي راشد قد باتت السيدة اميلي نصر الله بعد زواجها من المهندس ولاّد المشروعات فيليب نصر الله، الزحلاوي حتى العظم.
وتجددت اواصر الصداقة واتخذت بعداً عائلياً مع العائلة، “الصهر” ـ كما كنت أناديه ـ والسيدة والدته اضافة الى الزميلة التي غدت روائية مع إصدارها روايتها الأولى “طيور أيلول”.
نجحت الرواية نجاحاً ملحوظاً، ووجدت من يترجمها الى أكثر من “لغة حية”، وغدت الريفية القادمة من الكفير مثالاً مميزاً للأديبة التي ساوت بين إنجاب الأطفال وإنجاب القصص والروايات.
بعد ذلك ستتوالى الروايات … ثم ستنتبه اميلي نصر الله الى الأطفال فتنتج لهم مكتبة كاملة، والى النساء فتشارك في ما يتناسب مع قيمتها من انشطة.
ولقد ترجمت مؤلفات اميلي نصر الله الى بضع لغات، بينها الفرنسية والانكليزية والإيرانية ومن ثم الألمانية.
آخر حفلات التكريم أقامها معهد غوته الألماني حيث دعاها الى مقره، في مدينة فايمار على مبعدة خمس ساعات تقريباً من فرانكفورت. ولقد صحبتها عائلتها جميعاً:
الأبناء والبنات والأحفاد بحيث شكلوا قافلة من الفرح والحب الصافي والتقدير الى حد الفخر بهذه الأم المبدعة والجدة التي قهرت السنين بالصمود واستمرت تنتج وتفرح بالطبعات الجديدة لإبداعاتها القديمة ومحاولة إبداع الجديد .. ولو شفهياً.
اميلي نصرالله: الراوية ـ القديسة ـ الشاعرة
أيها الاخوة
كانت الرواية الأولى “طيور ايلول” حدثاً أدبيا، بل يمكن القول أنها شكلت اختراقاً للمفاهيم السائدة. لم يكن السبب في ذلك ان كاتبتها امرأة، وان هذه الكاتبة ابنة قرية تائهة في بعض المناطق المنسية، تلتحف جبل الشيخ الذي يربطها بفلسطين وسوريا، وهي جنوبية وان أطلت على البقاع الغربي وعينها على دمشق.
…كان السبب الفعلي ان الرواية كانت فتحا في عالم ما يسمى تضليلاً “الأدب النسائي”، وأنها قدمت اميلي نصرالله ككاتبة تملك أسلوبها الخاص، لها رؤيتها التي تبشر بولادة روائية مؤهلة لان تحتل مكانة مميزة في هذا العالم الذي كان ـ الى حد كبير ـ حكراً على الكتاب، وندر ان اخترقته أديبة فكيف اذا كانت وافدة من الأطراف وطارئة على المدينة وليس لها من يسوق نتاجها ويقدمها الى الناس بما يليق بموهبتها؟
اخترقت “طيور أيلول” الحواجز، وفرضت الاهتمام بها على المعنيين بالثقافة، فقدمها كبارهم على أنها تمثل فتحاً في عالم الرواية، وتسقط الحواجز الوهمية بين أدب الرجال والأدب النسائي، ان صح مثل هذا التصنيف على الإبداع.
تلك كانت البداية، ثم توالت إبداعات اميلي نصرالله في الرواية والقصة القصيرة والسيرة وصولاً الى الشعر ولو عبر “همسات”.
فأما الروايات فهي: الرهينة، تلك الذكريات، الإقلاع عكس الزمن، الجمر الغافي، ما حدث في جزر تامايا،
ثم اندفعت الى مجال الكتابة للفتيان، فأصدرت “الباهرة” و”يوميات هر”، “على بساط الثلج”، “أوراق منسية” و”روت لي الأيام”.
أما في المجموعات القصصية فقد أبدعت الكثير: جزيرة الوهم، الينبوع، المرأة في 17 قصة، الطاحونة ، الضائعة، خبزنا اليومي، محطات الرحيل، الليالي الغجرية ، اسود وابيض، رياح جنوبية، وخطوط الوهم الرائعة.
وأما في السيرة فقد كتبت اميلي نصرالله ستة أجزاء عن نساء رائدات من الشرق والغرب ثم أضافت اليها “في البال”.
اية مقدرة عند هذه “القديسة” التي لا يتعب قلمها وهي تستكبه انطباعاتها التي تعود بها من كل رحلة من رحلات تجوالها المتواصل الذي كاد يشمل القارات جميعاً؟! وكيف لذاكرتها أن تستوعب كل ما تشاهد وتسمع وتقرأ عن البلاد وناسها، في لبنان ومصر وفي اميركا وكندا وفي بعض اسيا، وأوروبا؟ وما هو السر في ان من يراها لأول مرة يحس بجاذب قوي إليها يدفعه دفعاً الى ائتمانها على أسرار حياته… ثم ما هذه القدرة على تقديم الشخصيات بالتفاصيل الدقيقة التي تمتد من ملامح الوجوه الى العادات والتقاليد الى العواطف ورقتها التي تأخذ الى الشعر وعواصفها الكاسحة التي قد تدمر الهيكل؟.
وما هذه الذاكرة الهائلة التي لا تنسى تفصيلاً في بيت فلاح ولا تهمل نبرة غضب في لهجة مفجوع او رنة فرح في همسات حبيبين يلتقيان خلسة أول مرة.. ثم ما هذه القدرة على استنطاق الهر “زيكو” ليقول ما لا يجرؤ البشر على الاعتراف به او إعلانه.. ولو من باب خدمة الحقيقة؟
هي مزيج من القديسة والشاعرة والروائية.
قصيدتها الأرض وديوانها الناس بعواطفهم وقصص حبهم المجللة بالشجن، ثم انها شاهدتهم وهم يجيئون لزيارة ملاعب صباهم فإذا بهم يستعيدون سيرتهم الأولى فيها، بعواطفهم البكر، حباً وحسداً وحقداً، بتعلقهم ببيوت لم تعد تعرفهم وأهل سقطوا من ذاكرتهم.
هي راوية مبدعة لحقبة هائلة الغنى في تاريخ لبنان، بأبنائه المقيمين والمغتربين، تستعيدهم وتعود اليهم، تستكمل حكاياتهم المبتورة، وتعيد وصل ما انقطع او ما قطعوه عمداً مع بيئاتهم الأولى ليصيروا غير من كانوا فيها، ثم إذا بهم ـ في لحظة ـ يعودون هم، في حضور “الشاهدة” التي تعيدهم إلى حقائقهم الأولى بالصح والغلط، بالمكر والمخادعة، بالطمع والترفع وقصص الحب المبتورة.
لقد غزلت اميلي نصرالله من حكايات الضيعة روايات، وزرعت أولئك الريفيين البسطاء في وجدان قرائها الكثر وتشعرك متابعة النتاج المميز لهذه المبدعة وكأنها هي من ولدت، او أنها أعادت خلق أبناء قريتها، وواكبتهم في مسارات حيواتهم مسجلة يومياتهم بقصص الحب والغيرة، بحكايات النجاح والفشل، مستعيدة مواكب الذين هاجروا في أوائل القرن الى حيث تأخذهم “البوابير” عبر البحار، هرباً من الفقر والظلم والموت جوعاً.
واميلي نصرالله تجيد الرسم بالقلم: فهي تجعل من الطبيعة بعض أبطالها، ثم أنها تتوغل في غابات المشاعر الإنسانية فتنقلها الى الورق حارة، بالحقد والكراهية فيها، بالحب والرغبة والشوق، بالأنانية والحسد والغيرة، بالطمع ونزعة الاستئثار وإلغاء الآخرين.
ولكن، ولان اميلي نصرالله مرهفة المشاعر، فهي تعف عن التوغل داخل الشخصيات التي تتملكها النزعة الى السيطرة والى احتكار الثروة والنفوذ وإلغاء الآخرين، وتكتفي بان تنبهك الى مساوئهم عن طريق التركيز على أثارها المدمرة للآخرين.
ولقد سرى الحب رقيقاً بإميلي نصرالله الى الشعر فإذا حبيبها هو الديوان مرصوفة كلماته وهمساته ولمساته ولفتاته قصائد تجري في كيانك مجرى النفس وتمنحك الشغف بالحياة وقد اكتمل فيها المعنى.
لم تكن المفاجأة في قدرة اميلي نصرالله على التدفق شعراً، بل في اطلاقها هذا النهر “ديواناً” أعطته عنوان “همسات” ربما للتوكيد على الرقة فيه او على تجاوز الخجل وإطلاق عواطفها جياشة تفيض على الأوزان لحبيبها الذي جعل العمر جنة وجعل الحياة مهرجاناً للفرح.
ثم انها وببساطة المتمكن من فنه كتبت جوانب من دراما الحرب الأهلية في لبنان على لسان فصيح، برغم خرسه الأبدي: هرها “زيكو”.
ولقد استفادت اميلي من خرس الهر لكي تقول لفتيتنا وصغارنا عموماً، “بالرموز” والتعابير “المشفرة” ما كانوا يعجزون عن قراءته في عيون أهلهم المسحوقين بالخوف، أو الفاقدين القدرة على التمييز ورؤية الحقائق نتيجة التعصب لفريق، او الانحياز لهذه او تلك من بنادق المحاربين.
كان لا بد من الهر لتجاوز المسميات، سواء أكانت قوى دولية، او أطرافا “إقليميين” او أحزابا محلية، واستطراداً: طوائف او مذاهب تنتج بلا انقطاع عصبيات جاهزة للاقتتال او للقتل المجاني.
على ان “زيكو” الذي نطق بقلم اميلي نصرالله لم يغفل عن تقديم نصيحة أخيرة هي خلاصة تجربته “إذا وقعت الحرب فاقفز من النافذة واهرب ولو إلى أقصى الأرض… اهرب من أبيك ومن أمك ومن الناس كلهم، واهرب من نفسك حتى لا تذروك الحرب رماداً”.
ولان الحرب قد أصبحت اليوم “جرحاً” بليغاً في الذاكرة، فقد أمكن لزيكو أن يستعيدها وان يرويها مستعيراً الكثير من تجاربنا جميعاً، واميلي نصرالله واحدة من أعظمنا تجربة.
أيها الاصدقاء،
لك العمر، أيتها الصديقة التي أفخر انني قد زاملتها، ورافقت مسيرة “فيليب”، زوجها الراحل، وعرفت أبناءها وبناتها ثم أحفادها وهم اطفال، ثم وهم يتقدمون ويحققون نجاحاً باهراً في مختلف ميادين الانتاج.
أيها الاصدقاء،
عذراً أن كنت قد أطلت. لكنني احاول التعويض عن جبني يوم تركت فيليب نصرالله يختطف هذه المبدعة مني، لكن علّي أن اعترف أن ذلك كان من حظها وحظ الناس الذي تمتعوا بإبداعها، وحظي بأن صارت لي صديقة أباهي بها الامم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة القيت في تكريم الاديبة اميلي نصر الله في جمعية التخصص والتوجيه العلمي في 30 تشرين الثاني 2017