عليك أن تتخذ القرار، واليوم لا غدا، ان كنت تنشد الامان وراحة البال. لا مجال، بعد، للتسويف ومخادعة النفس! لست اليوم ما كنته أمس، وليس غدك امتدادا ليومك فضلا عن أمسك الجيد!
عليك أن تعالج ذاكرتك، أن تعطلها، بل أن تمسحها لتزيل ما علق بها من وقائع »الزمن الجميل« الذي تتخذه ملجأ. لقد قصفت صواريخ كروز وطائرات الأباتشي هذا الملجأ وأنت الآن في عراء الذكريات المنهكة التي لن تنفعك في غدك، بل هي ستفسد عليك يومك وغدك!
امسح ذاكرتك بالكامل، وابدأ من جديد لتكون من أهل العالم الجديد!
لقد جاءتك الشيخوخة مبكرة، فتخلص من ذاكرتك، وإلا جلست تهذر بين صحبك (وأحفادك) بكلام غير مفهوم وتسميات منقرضة! تخفف من أثقالك التي ظللت تحملها باعتزاز طوال السنين، حتى غدوت تمشي متهدلاً كجمل يرهق ظهره بحمل من الاشواك الحادة الرؤوس والحراب المسننة التي قد تكون مسمومة!
هي ذاكرتك! قال لك الطبيب. لا بد من استئصالها! إنها أخطر الاورام الخبيثة! أعجب كيف يمكنك أن تمشي وأن تتحرك وأن تفكر وأن تعمل وأنت مثقل بها، والصدأ يتكاثف فوقها طبقات، والسوس ينخر جنباتها؟! ما هذه الكتل العجيبة؟ ما هذه الخرائط الملونة؟ ما هذه الاعلام والشعارات والاسماء والصور التي أغفلتها القواميس الحديثة؟ ما فلسطين؟ ما القدس والحرم القدسي؟! ما حيفا ويافا وعكا والناصرة التي يراد ضرب كنيستها بمسجد ضاقت به الارض فلم يتبق منها غير حرم مهد السيد المسيح؟!
من »المعز« الذي تضيفه الى اسم القاهرة التي تتعولم الآن لكي لا تخطف منها الوهج شرم الشيخ؟ ما كان عدواناً ثلاثياً على مصر، يا عزيزي، في ماضيك التليد، صار اليوم تحريراً وتمديناً وتحديثاً للعراق!… من حمورابي؟ من الرشيد والامين والمأمون ودار الحكمة؟ بل من بابل؟ من المتنبي والجواهري والرصافي وبدر شاكر السياب ومظفر النواب؟ ما البصرة والحلة وسامراء والموصل والنجف وكربلاء؟!
ما »البعث«؟ ما حركة التحرر العربي؟ ما الجهاد؟ ما المقاومة؟ ما التحرير؟ ما الحركة القومية؟ ما الاستقلال والسيادة والكرامة؟ ما الوحدة العربية، بل ما العروبة؟!
امسح عن الذاكرة المكدودة ما يثقلها ويعطل تفكيرك!
مَن جمال عبد الناصر؟ من سعد زغلول وأحمد عرابي؟ مَن المهدي بن بركة؟ مَن أحمد بن بله؟ مَن يوسف العظمة؟ من سعيد عقل وعبد الكريم الخليل؟ من نسيب المتني؟ من أبو جهاد وأبو علي اياد وأبو اياد وأبو علي مصطفى؟ مَن الشهداء؟! دع الشهداء هانئين في مرقد إيمانهم. الأحياء أولى بالاهتمام!
مَن أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وأسمهان وفريد الاطرش؟ مَن سيد مكاوي والشيخ إمام؟ مَن حافظ ابراهيم وأحمد شوقي وخليل مطران؟ هي أصوات من الماضي. يتحدثون عن النظرة واللمسة ورموش العين، عن الصد والهجران وطول السهر، ولوعة العاشق الذي ينتظر موعداً ويخاف العيون! لم تكن في أيامهم »غارسونيرات« وبيوت لذة.
ما هذا التعلق بالتخلف؟ ما هذا التغني بالكبت الجنسي، بينما تعرض عليك الآن صور الجميلات في المطار، مع شجرة العائلة لتطمئن الى أنك ستنام مع »نسب مؤصل«؟! ثم ما حكاية الشرف؟ ما هذا الإناء من الوهم الذي تكسره نظرة أو كلمة أو اشارة عابرة أو ابتسامة طيارة؟!
هيا، استبدل ذاكرتك بواحدة جديدة، لم يدخلها سوء!
امسح منها حكايات البطولة والتغني بأمجاد لا تطعم خبزاً ولا تفتح لك باب المستقبل! هل تناقش، بعد، حق إسرائيل في إلغاء فلسطين، وحق الجبار الاميركي في إلغاء العراق، وأي بلاد يشاء؟
امسح من ذاكرتك الاناشيد العتيقة »بلاد العرب أوطاني« أو »نحن النسور، لنا الغد«، أو بشكل خاص »والله زمان يا سلاحي«؟ أو ذلك النشيد الارهابي »الله أكبر«!
امسح من ذاكرتك أسماء أهلك الراحلين، وأسماء أصدقائك المشبوهين… لعل بينهم من يثير غضب واشنطن أو يستفز رجل السلام الجديد أرييل شارون!
امسح من ذاكرتك أنك عربي!
هيا عد الى أحضان طائفتك أو مذهبك أو عرقك!
لم يعد يكفي أن تقول انك خليجي: عليك أن تحدد من أي بقعة من الخليج أنت؟ فإن كنت سعودياً فهل أنت نجدي أم حجازي أم من الشرقية والعياذ بالله؟ وهل أنت بحريني أم بحراني؟! فإن كنت كويتياً فهل أنت »بالتأسيس« أم بالتجنيس أم من »البدون«؟! أما إن كنت عراقيا فعليك أن تحدد: هل أنت كردي أم تركماني؟ أشوري أم كلداني؟ ثم لا يخطرن ببالك أن تقول إنك عربي وكفى، عليك أن تهجر اللغة البائدة الى الاميركانا فتحدد: هل أنت شيعي أم سني؟ يزيدي أم من الصائبة؟
امسح ذاكرتك واجعلها نظيفة لا أثر من فلسطين فيها، ولا ذكر للجهاد، أو التحرير… لقد أنجز الاميركيون المهمة، فتقدم منهم شاكراً، حامداً، عارفاً بالجميل.
عندها تدخل العصر الاسرائيلي، وتكتب لك الحياة!
أما المثقلون بالماضي فلا مكان لهم في المستقبل. والسلام على من اتبع الهدى!
لارا غسان مطر فوق دم النخيل!
الموت العربي ليس موتاً فردياً، إنه اغتيال جماعي.
لذلك لم يكن غسان مطر يحتاج الى جهد للربط بين مقتل وحيدته »لارا« قبل أربعة عشر عاماً، بانفجار سيارة مفخخة وضعت في طريق الناس من اجل اغتيال اكبر عدد ممكن من الناس في بيروت، وبين الكذبة المفخخة عن اسلحة الدمار الشامل التي فجرتها الادارة الاميركية ذريعةً لاحتلال العراق واستعباد ملايين شعبه بل العرب جميعاً واغتيال ثرواتهم وأحلامهم وآمالهم العراض.
وبين »لارا« و»العراق« فلسطين، حيث القتل الفردي يسابق الاغتيال الجماعي وحيث الاستعمار الاستيطاني يسابق الاحتلال في إلغاء شعب وطمس هوية أرضه وإبادة التاريخ:
»يزهر الورد من دمهم/ لا فلسطين ماتت/ ولا نخلة في العراق تموت
»البكاء الذي يتعالى هنا وهناك مخاض الولادة
»فانتظروا الطفل يزرع ضحكته في البيوت
»أشعلوا شمعة، وأضيئوا زوايا السكوت،
»هذه أمة لن يمر على دمها العنكبوت«.
وكما مع »لارا« كذلك مع العراق: انهمر الحزن قصيدة موصولة حتى كان الديوان الجديد »بكاء فوق دم النخيل«: كنت أنزف ليل نهار. »فالجنازة تمتد من ممر ابي الى جثة في جنين«… وعلى امتداد شهر من حرب الاحتلال الجديد اكتملت القصيدة ديواناً!
كان غسان، كعشرات الملايين من أبناء هذه الامة المقتولين أو الموتى في مقاعدهم بالشلل عن الفعل، يتابع مشهد الاندثار بالعجز:
»هل تبقى رجال لحفر القبور/ وهل جثث كل ما حولنا/ لم يعد بيننا رجل واحد/ والشهيد الذي يسقط الآن/ يحمل آخر أسمائنا«.
إنه التيه: »ما لنا لا ندوّن أسماءنا/ كلنا راحل/ كل فرد له قبره في الطريق/ البريق الذي كان يشعل أسماءنا مات عليه البريق..«.
»التيه: أن نسمع قصفاً في بغداد/ فنفرح أن الحجاج قضى/ ونغني لزياد بن أبيه/
التيه: أن يأكل إنسان عربي لحم أخيه«.
والتيه يأخذ الى الليل، وليلنا بلسان غسان مطر طويل طويل، و»لا أهل لي غير ليل طويل، ولا بيت لي غير حقل من الصمت يذبل فيه الكلام«.
لكن الشعر يتدفق غزيراً: »التماثيل تهوي/ لقد سقط الطاغية/ غير أن العروس تخاف تماثيل من قدموا فوق دبابة غازية«… والشعر يأخذ الى طلب النجدة من سيد الشهداء: »إنهم يصلبون النبي، على باب بغداد/ قم لهم شاهراً سيفك الهاشمي/ اما انت علمتنا اننا امة/ ليس ينقذها غير عرس الدماء«!
بالشعر تلقى غسان مطر الكارثة الجديدة… والشعر يتفجر رقراقاً من قلب الحزن فيغزل موالاً بغدادياً:
»أبكي ودمعي غزل/ فوق العيون وشاح
»وجراح في الروح/ تسند في الضلوع جراح
»يا بائع المن والسلوى حبيبك راح/
»بغداد جاني الخبر ولطمت راح براح
»بغداد لو مثلها تلاقي صبايا ملاح
»بالروح لو تفتدي/ يا ريت عند رواح«
… والحزن العراقي يتكاثف فلسطينياً، فيهطل المطر الاسود على امتداد هذه الرقعة التي كانت مدى للسيف فصارت ميدان رماية لجيوش الاحتلال وغدونا الاهداف. »حتى نستعيد توازننا ويستعيد العالم قدرته على مواجهة نيرون ومنع الدبابة من سحق اجسادنا واحلامنا«.
عندما بات للهواء لون عينيها
دخلت تواكبها دعتها ويتقدمها طيف ابتسامة تختلط فيها المرارة والتهيب وشيء من السخرية.
جلست في قلب الصمت تاركة لعينيها فرصة التأمل والتعبير عما جاءت تسأله. وعزّ على من يقرأ عينيها ان يكتب او ان يقول.
كانت هادئة كمن تعوّد على الصدّ فبات يتوقعه من الجميع… وربما لهذا جعلت جلستها على طرف المقعد، وكأنها لن تطيل الجلوس لان الرد المألوف سيجيئها سريعا ولو مغلفا بالتهذيب.
وقرر ان يطيل فترة التأمل بالاكثار من الاسئلة… فسأل عن الهوية وعن الهوايات، عن الدراسة وعما تريد ان تكونه في مستقبل حياتها. ولما ذكرت مدينتها سألها عن بعض من يعرف فيها، وروى لها بغير مناسبة بعض ما يعرفه عنهم.
تخلت عن توفزها، وفي لحظات نادرة تحول طيف الابتسامة الى ضحكة قصيرة كانت كفيلة بأن تغير في سحنتها وبأن تسقط ذلك القناع الذي تتصفح به فيبدل في ملامحها وفي مسلكها ويجعلها على طريقة الكشاف »دائما مستعد«.
وحين غادرت كانت ابتسامتها القصيرة طبيعية.
في اللقاء الثاني كانت اكثر إحساسا بالامان.. وكان اكثر ارتباكا.
جلست امامه تماما بثقة. سألت وكأنها تستجوبه، وفوجئ بأنه قد لجأ الى نبرة دفاعية لم يألفها من قبل!
هما عيناها! قال في نفسه. لكأنهما، بزرقتهما المغلفة بشيء من الوسن، جناحا فراشة تخترق صفاء سماء صيفية. لكأنهما مقاطع مشطرة من قصيدة تنتظر الخفقة التالية في قلب شاعرها الذي يقاوم الجنون.
وحين قامت مودعة لاحظ ان ابتسامتها قد استعادت صفاءها، وأن الهواء قد بات له لون عينيها: شيء من زرقة السماء الصيفية مع شيء من الخدر الربيعي.
وجلس، وحيدا، يكمل حديثه معها، واثقا من انها تسمعه!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب هويتي. هو اسمي ولون بشرتي وحلمي ويقظتي وطريقي. من لا يعرف الحب مخلوق زائد، يسرق منا الهواء وبعض المدى.
أن تحب يعني أنك حي. ان تكون حياً معناه انك اثنان وانكما الحياة. هل أخذتني الثرثرة الى كشف اسم الحبيب؟