إيلان بابيه، هو من كبار مؤرخي اسرائيل المنشقين. هاجر إسرائيل عام 2008، رفضاً للصهيونية وللسياسة الإسرائيلية التي اعتبرها قائمة على ركيزتين؛ الإبادة الجماعية لأهل غزة و”الترانسفير” لأهل الضفة الغربية، فما هي مناسبة استذكاره اليوم؟
أعلن إيلان بابيه مع بدء حرب غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بداية نهاية الصهيونية، بمعنى حكم أقلية يهودية لأكثرية عربية في نظام قائم على “الأبارتايد”، أي العنصرية والعنف. يتمنى المرء أن يكون هذا الإستنتاج صحيحاً مع بلوغ الهوة بين القوة الإسرائيلية والقوة العربية ذروة غير مسبوقة، علماً بأن السقوط في كل شيء يبدأ بعد بلوغه الذروة.
والذروة هي أن تُقيم إسرائيل امبراطورية من نوع جديد. ما بلغته إسرائيل من تطور تكنولوجي يتيح لها حكم مناطق واسعة من بُعد. الحرب الأخيرة على غزة ولبنان تشير إلى أن هناك من قرّر جعل الشعبين اللبناني والفلسطيني حقل تجارب لاستخدام أسلحة تكنولوجية غير مسبوقة في الحروب إلا لدى الولايات المتحدة وإسرائيل. رأينا القتل عن بُعد (online) والتهجير عن بعد. فماذا يمنع أن يكون الحكم عن بعد والسيطرة عن بعد (أونلاين)، وذلك دون احتلال أو حرب برية، ودون أن تطأ أرجل جيوش الاحتلال أراضي الأعداء!
وقد رأينا الجماهير “المحتلة” أرضها في فلسطين ولبنان تخضع للحكم الإسرائيلي، وإلى تنفيذ الأوامر المعطاة عن بعد مع نزوح أعداد كبيرة من الفلسطينيين في قطاع غزة وفي لبنان، حسب أوامر الإسرائيليين المعطاة عن بعد (أونلاين).
طبعاً ينتاب الواحد منا شعور يتعدى الغضب إلى المهانة. إذ يرى آلاف المواطنين العرب يتركون منازلهم ومتاجرهم وأعمالهم مسرعين في كل اتجاه عند صدور الأوامر الإسرائيلية، تهديداً بالقصف والقتل خلال دقائق قليلة، وقبل انتهاء نصف ساعة على الأكثر. ما يزيدنا شعوراً بالألم والمهانة هو أن نرى جحافل شعبنا العربي يخضعون ويُنفذّون الأوامر الإسرائيلية حال صدورها. ومن ينزح يُقتل بوسائل عن بعد هو ومن معه ومن استضافه، وحجة كل ذلك عند الإسرائيليين أن المكان استقبل “قادة” من الذين لم نسمع بأسمائهم ولا مهامهم من قبل؛ وهم لا يتورعون عن اتهام من يُراد قتله بتهمة “الإرهاب”.
إن وصف ما تقوم به إسرائيل في فلسطين ولبنان بكونه جرائم حرب وحرب إبادة أمر صحيح، لكنه لم يعد يكفي لفهم ما يجري من سيطرة على الساحة العربية، وبالمقابل خضوع الألاف تلقائياً للسلطة الجديدة. فهولاء يتبلغون الأوامر عن بعد ويخافون من عدم تنفيذهم لها، ويحاولون تجنب نتائج ذلك.
ليس صحيحاً أن الصهاينة الذين أسّسوا إسرائيل ما كانوا يعرفون أن أصحاب الأرض في فلسطين شعب له تاريخ ومستقبل. وما شعار “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” إلا نموذجاً فاضحاً للكذب واخفاء النوايا الحقيقية. ثم تبع تأسيس كيان إسرائيل سياسة قضم الأراضي. إنه شعب لا يمكن قهره إلا بالحديد والنار، كما كان يقول جابوتنسكي، منظّر القوة لدى الصهاينة.
المهم هنا ذكر علاقات القوة والسيطرة، إذ هناك مركز مدجج بالسلاح والمال اللذين تزوده بهما الولايات المتحدة، كذلك الوسائل التكنولوجية للسيطرة عن بعد. ومن يتوقع أن يطول زمن هذه الحرب، فربما كان محقاً في ذلك، إذ أن المختبر يحتاج إلى وقت كي يتم الرضى عن النتائج.
لا شيء يمنع أن يمضي الصهاينة وراء أوهامهم المأخوذة عن “العهد القديم”. إذ بعد أن تحققت لهم دولة إسرائيل، هم يتوسعون للاستيلاء على الأراضي الكنعانية حسب العهد القديم؛ وهم في ذلك على طريق تحويل الأوهام إلى حقائق. ولا تقف في وجههم قوة نتمناها ولا نمتلكها لتصويب الأمر وكشف الأوهام والأكاذيب وإعادة الحق الى نصابه. والحق هو أنه ليس لهم في أراضي العرب شيء.
الصهيونية هي أكذوبة الغرب الكبرى، وهي عندما تبلغ الذروة ينكشف زيفها. فهل نحن في هذه المرحلة الآن؟