نقسو أحيانا، بل كثيرا، على الجامعة العربية أو على دولة عربية أو أخرى فنطالبها بأن تمارس “دورها” وتقود العالم العربي نحو مخرج مناسب من أزمته الغارق فيها. نقسو عليها ونظلمها ظلما بينا. نتجاهل، قبل أن نطالب، حقيقة أن هذه الدولة العربية أو تلك أو الجامعة العربية لا يلتصق بوجودها منذ نشأتها وحتى زوالها، لا قدر الله، دور بعينه تتحمل واجب ممارسته. ما يلتصق بوجودها لفترة تطول أو تقصر هو عدد من المسؤوليات في شكل قواعد عمل وسلوك وسياسات خارجية يفترض أن تلتزم بأدائها لتحقق مصالحها. أما الدور فلا يلتصق ولا ينشئه قرار ولا تحدده قائمة قواعد وسلوك ونمط سياسات.
ينشأ الدور من التحام عنصرين، أولهما اجتماع عدد من الظروف والأوضاع المحيطة، أي في البيئة، وعدد من الظروف والأوضاع المحلية، مثل الأحوال الاقتصادية والسياسية لدولة معينة ومضمون خطابها ونوع رؤيتها لنفسها وللإقليم القريب منها وصورة إمكاناتها المعنوية وقواها الرخوة والصلبة واعتراف الآخرين لها بحيازتها وبقدرتها على تشغيلها. ثانيهما، أي ثاني العنصرين المفترض التحامهما، هو رغبة هذه الجهة، دولة كانت أم جامعة عربية، في تقلد أعباء دور يتجاوز المسؤوليات العادية الملقاة على عاتقها وقد يتضارب بالضرورة مع بعض سياساتها الخارجية. التحام هذين العنصرين ينشئ الدور وانفكاكهما عن بعضهما ينهيه على الفور. لا دولة جادة تزعم لنفسها دورا إقليميا تعلم أنها غير قادرة على الوفاء به في ظل ظروف وبيئة معينة ولا دول ومفكرون جادون يقررون أن لدولة ما أو لمنظمة ما دورا إقليميا أو دوليا هي نفسها رافضة له أو متنازلة عنه.
أجد صعوبة في فهم إصرار خبراء ومحللين على مطالبة دول عربية باستئناف أداء دور إقليمي كان لها، أو مطالبتها بإعلان التزامها بأداء دور إقليمي جديد، بينما الواقع يؤكد أن لا واحدة منها جاهزة لهذا الدور أو راغبة فيه. تحلم به ربما أو تسكت عن إعلاميين في خدمتها يزايدون على دور لم تكتمل ظروف وشروط نشأته، أو ربما تنفذ سياسات خارجية تعبر عن نية تغيير في علاقة دولية أو أخرى فيظن فريق من الناس أنها عادت إلى دور قديم أو تنفذ دورا جديدا، واضح لي في كل الأحوال أنها غير مستعدة الآن لتبعات ومشاق ومتاعب تجلبها سمعة الدور الإقليمي.
دفعني لكتابة هذه المقدمة الطويلة اعتباران لكل اعتبار منهما أهمية خاصة. يرتبط الاعتبار الأول برغبة لمستها لدى قطاع مهم في الجماعة الدبلوماسية المصرية فتح حوار بين المتخصصين حول مستقبل الدور الإقليمي لمصر في ضوء سلسلة الأزمات الملتهبة في الشرق الأوسط، وبوجه خاص في المنطقة العربية. يفهم من هكذا عنوان أن هناك دورا إقليميا لمصر ثابتا ومستمرا، والمطلوب إنعاشه أو تجديده. أتفق مع الاعتقاد السائد بين أكثرية المتخصصين من أن الكارثة في الوضع العربي استفحلت وأن من واجب مفكري هذه الأمة توظيف أدمغتهم للمساهمة في جهود إخراج الأمة من ورطتها قبل أن تتعقد الأزمة أكثر وأكثر. نعم استفحلت الأزمة وتزداد تعقيدا مع مرور الأيام ولكنى اختلف مع التصور المصاحب لهذا التوصيف والذي ينتظر الحل على أيدي مثقفين وقادة رأي تجتمع إرادتهم على ضرورة الضغط على حكومة عربية أو أخرى أو جامعة الدول العربية لتمارس “دورها الإقليمي”. لا أصدق أن دورا إقليميا مورس قبل ستين عاما أو ثلاثين أو قبل عقد مضى يصلح اليوم، إن وجد، لمواجهة الكارثة. ناهيك عن القول أن الجهات المرشحة لهذا الدور لم تقرر بعد أن دورا إقليميا ينتظرها وأسمح لنفسي بأن أظن أنها سوف تكون غير مرحبة بضغوط مكثفة عليها من النوع الذي ذكرت.
كان هناك أيضا وراء هذه المقدمة المطولة اعتبار ثان. إذ شغلني خبر عن اجتماع ثلاثي انعقد في مدينة القدس بين كبار المسؤولين عن الأمن القومي في كل من الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل. شغلني الخبر ولم يشبع نهمي ما أذيع رسميا أو تسرب من الاجتهادات الذكية التي ناقشت الواقعة. قابلت بين الاجتهادات من يحاول إقناعي بأن الأمر جد خطير. ألمح الكاتب المعروف بصلاته هناك إلى وجها للشبه بين هذا المؤتمر والمؤتمرات التي عقد في مطلع القرن العشرين وبمقتضاها جرى تقسيم الممتلكات العربية في الإمبراطورية العثمانية. بمعنى آخر أراد الكاتب وغيره كثيرون أن يضعني مكان من يجب أن ينتظر خريطة جديدة تتوزع عليها الأقاليم العربية الواقعة تحت النفوذ، ولا أقول الاحتلال العسكري، الروسي، والأقاليم العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة، ولإسرائيل، كما فهمت مما قرأت، جيوب في كل هذه الأقاليم ترتادها كما شاءت وكيفما حلا لها. بمعنى آخر يتصورون أن التوسع الإسرائيلي في الأراضي العربية سوف يستمر تحت غطاء هيمنة قطبين على الأقل.
خطرت أسئلة عديدة. لم يدعونا أحد رغم أن علاقات بعض العرب بدول هذا المثلث وثيقة ورفيعة، أم أنهم دعونا ولم نحضر؟ هل نعود ونمارس هواية تعذيب جامعة الدول العربية ونسألها عن “دورها الإقليمي المنتظر” في ظل خريطة جديدة تجسد هذه الهيمنة؟ أم نرأف بحالها ونوجه سؤالنا المختفي دائما وراء قسوتنا على الجامعة، سؤالنا إلى حكومة دولة عربية فنقول أين كنت وأنت صاحبة دور إقليمي قديم ونستدير إلى دول عربية أخرى ونقول أين كنتم وأنتم مرشحون لدور إقليمي جديد. هل أحد مستعد لهذا الدور؟ وإذا وجد المستعد فلماذا لم يستدع للاجتماع، أم أن كل العرب غير مدعوين لأنهم مثل عرب الحرب العالمية الأولى كانوا بدون دور أو رأي أو خطة أو قدرة، وكلها شروط واجبة لصياغة دور ثم ممارسته.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق