بدأت الحكاية بوريقة مطوية بحجم العين، لا يعرف كيف وصلته في زحمة النقاش، ولأنه افترضها سؤالاً من ”مشاغب” فقد فتحها وهمّ بالقراءة، بل لعله لفظ الكلمة الاولى قبل ان ينتبه فيتشاغل بالتفتيش ضمن أوراقه تمهيداً لأن يرد على سؤال لم يطرحه أحد ولا كان كلامه المتثاقل جواباً.
فتش بعينيه عنها: دار بصره على المشاركين في الندوة وجهاً وجهاً، فلم يعثر على من يفترضها صاحبة الكلمات الندية.
قال في نفسه: لعلها عند الباب، تعد لمفاجأتي…
وقف، ارتدى معطف غروره ومشى وسط مودعيه، يشكرهم ويشكرونه، بينما عيناه تدوران في المحجرين دورة كاملة قبل ان تعودا لتستقرا في اتجاه المدخل حيث ازدحم الجمهور متعجلاً الوصول الى الهواء الطلق.
لم ”يجدها” عند الباب، ولا بعده في تلك المسافة التي تفصله عن سيارته.
تهاوى المعطف، وتعاظم إحساسه بالعطش، وارتعشت يمناه وهو يدير محرك السيارة مرتين، فيلفت نظر المارة والفضوليين الى وجهه الذي غطاه العرق الآن، وزاد من ارتباكه ان سيارة كانت تسد عليه الطريق فكان عليه ان ينتظر وان يلجأ الى منديله يمسح به يديه ووجهه وعنقه ونظارتيه اللامعتين.
بعد دهر، تحركت السيارة التي أمامه فبات بوسعه ان ينطلق، وحين همت سيارته بالاندفاع سمع طرقاً على زجاج النافذة اليمنى فالتفت بتلهف مقدّراً ”انها“ قد جاءت الآن، لكنه فوجئ بوجه صديقه يسأله ان ينقله معه. فتح الباب من دون ان يغلق فمه فاندلقت ”لخمته” وسط تأتأته:
قاتل الله الحر!
قال الصديق متخابثاً:
برغم الحر فقد جاء الكثيرون الى الندوة. ألم تلحظ ان عدد النساء كان يفوق المعتاد.
صحيح؟!
وكانت نسبة الصبايا مرتفعة. لم نعتد في ندواتنا ان نرى من ينقص عمرها عن الأربعين.
عاد صدره يرتفع تدريجاً:
لعله الموضوع، خصوصاً ان العنوان كان مثيراً!
قرر الصديق ان يبدأ هجومه:
ولكنك لم تجب عن سؤالها؟!
لم يستطع بعد ذلك صبراً فرد متلهفاً:
أوتعرفها؟!
لا تمازحني الآن!
ولكنني لم أرها، أقصد لم أعرف أين أنظرها، فلا هي طرحت سؤالها علناً، ولا هي وقّعته.
وهل كان سؤالاً، أم انك تغير الموضوع يا دون جوان عصره؟!
تفاقمت حيرته، وحاول استعادة نص الكلمات المرتبكة داخل طيات الوريقة الصغيرة. يذكر ان الكلمة الأولى كانت ”أحب” ويذكر من الكلمات الاخرى ”ظلال العينين الحانيتين”، ويذكر توقيعاً يشبه نجمة مخمسة.
بادله مكراً بمكر، قال:
لعلك تذكر ما فيها… لقد اختلط علي الأمر، فقد قرأت أوراقاً بأسئلة كثيرة.
قال صديقه ساخراً:
وأضعت الجواب الوحيد!!
لم يطق المضي في هذه اللعبة المضنية، مد يده مستأذناً من خلفه بالتمهل، ثم أوقف السيارة الى جانب الطريق وهو يهمس بغلّ:
لن اتحرك من هنا قبل ان أعرف… هل أنت صاحب الورقة المطوية؟! أم انك من أشار بكتابتها؟! وإلا فكيف قرأتها قبل ان تصلني؟!
قال صديقه جاداً:
اهدأ. لقد كانت جارتي. وبشيء من الفضول كنت أتابع حركتها. كانت الاجمل والابهى صبا بين الحشد المحشور في تلك القاعة. وبين ما لفتني اليها، انها كانت كمن ترغب في ألا يعرفها احد، وإلا فلمَ أبقت النظارتين السوداوين العريضتين، وتلك القبعة والشال، بينما الحر خانق؟! ولقد سلمت وريقتها لصديقة كانت معها ثم انصرفت. لحقت بها، فأعرضت عني، وسارعت الى سيارة تنتظرها فانطلقت بها بعيداً، مخلفة موجة عطر. هنيئاً لك يا صاح! ام انك ستصر على ادعائك بأنك لا تعرفها؟!
انفجر مقهقهاً:
لقد فعلتها الشيطانة مرة أخرى!
قال صديقه:
أظنك لن تمانع الآن، وقد عرفت اسمها، ان تخبرني من هي!
لم يقل شيئاً. مشى بالسيارة حتى بلغ محل الحلواني البيروتي العتيق، ترجل وغاب لحظات، ثم عاد يحمل قالب حلوى مزروعاً بشموع بعدد سني ابنته العشرين.
في البيت أخرج الورقة المطوية وقرأ:
“ أحب ان يحبك الآخرون، ولكن بشرط ان أهنأ بعمري في ظلال العينين الحانيتين… أتراني أنافس غيري أم أطوقك بغيرتي. دعني أقرأ جوابك وحدي”.