ما نزلت مدينة لأول مرة إلا وسألت سائق السيارة عن المسافة بين الفندق الذي ينقلني إليه والميدان الأهم والأشهر في المدينة. تغمرني السعادة مع معلومات السائق عن الميدان الذي يطل عليه الفندق حتى أشعر وقد عدت طفلا يفاجئه وعد تحقق. كنت إلى وقت غير بعيد لا أعترف لتجمع إسمنتي تقوم فيه مساكن ودور حكومة ومدارس تصلها ببعضها البعض شوارع أسفلتية أو ترابية، لا أعترف له بحقه في أن يطلق على نفسه صفة المدينة طالما افتقر إلى ميدان. دخلت أشباه مدن عديدة وخرجت منها ولم أذق في أي منها طعم المدينة، ولم أعثر على هويتها، ولم تلتق روحي بروحها ولعل بعضها كان بالفعل بدون روح. صدقوني إن قلت إنني بحثت في مدن كثيرة، بل ومنها عواصم دول تفرض وصايتها على غيرها، بحثت عن روح المدينة ولم أعثر عليها. دخلت أزقة من مدخل هو نفسه لا غيره المخرج منها، ومشيت في شوارع بعضها يقاس طوله بالأميال، زرت أحياء قديمة مبانيها هالكة، بعض المساكن تتكئ على أخرى عملا بشعار المصير واحد ولن يفلت ساكن من هذا المصير مهما طال الزمن. هنا المسافات بين البشر وكذلك بين الأشياء منعدمة وإن وجدت فضيقة للغاية أو قل خانقة. الالتصاق طبيعة ثانية للحياة في كثير من المدن التي تجولت فيها باحثا عن روحها.. نعم، عرفت مدنا بلا روح. مدن خلت من الميادين.
مدن ومدن. بشر وبشر. دول ودول. لست، ولن أكون، واحدا من الذين يعممون على الناس خصالا هي من خصال فصيل بعينه أو قلة متناثرة. رفضت طول عمري أن أجمع كل الرجال في سلة واحدة وأعلق عليها لافتة تنبئ الغرباء وبخاصة النساء بأن محتوى السلة لا يبقى على عهد ولا يحترم ميثاقا. لا، ليس كل الرجال خانوا عهودا ومواثيق. أرفض كذلك أن أجمع في باقة واحدة كل النساء. نعم، ليس كل النساء مصدر بهجة وسرور، أكثرهن نعم. وليس كل النساء مصدر نكد وتعاسة، أقلهن نعم. أنا منحاز للمرأة وأحيانا على حساب الرجل ومنحاز للميدان وأحيانا على حساب كل الشوارع والحواري والأزقة. ولكن انحيازي للميادين لا يعميني عن الفروق الشاسعة بينها. أكيد أنني لن أشعر وأنا أقف وسط ميدان سان ماركو في مدينة البندقية بنفس ما أشعر به وأنا أقف، كما وقفت فعلا منذ شهر مضى، وسط ميدان العتبة. وحتى لا أظلم ميدان العتبة أكرر أن وقفتي كانت خلال الشهر الماضي. لأننى قبل ستين عاما كان يمكن أن أقارن بين شعوري وأنا أقف في ميدان العتبة وشعوري وأنا أقف في ميادين أخرى أعرفها وأقمت فيها أو حولها، وأنتهى من المقارنة مترددا، أيها الأعظم تمثيلا لروح مدينته.. ميدان برنيني في روما وميدان المنشية في الإسكندرية وميدان العتبة الخضرا في القاهرة. اليوم لن أقارن ولا أشجع أحدا فيحاول وينتهي محبطا.
طلبت من منظمة المؤتمر إعفائي من حضور جلسة بعد الظهر. خرجت من الفندق الواقع في الشارع الضيق والتزمت الرصيف حتى انتهى بي على مشارف أهم ميدان في مدريد. الناس هناك تعارفوا على تسميته بالميدان، كما لو كان الميدان الوحيد بالعاصمة أو بإسبانيا. تجولت في أنحاء لابلازا وانتهى بي المطاف على مائدة في مقهى هو الأقرب إلى الشارع الضيق الذي ساقني إلى الميدان. طلبت مشروبي المفضل في تلك الساعة، وللطلب هذا خلفيات ثقافية ازدهرت على امتداد سنوات عزيزة قضيتها في أمريكا اللاتينية. وصل المشروب ولم تنسحب النادلة في انتظار عبارة أو إشارة رضا يعقبها حديث عن الطقس وبلد الأصل والشهادة العلمية والحالة الاجتماعية. تنسى أن بين هذا المقهى والمقهى الذي تعرفت فيه لأول مرة على هذا المشروب آلاف الأميال ومحيط أطلسي وثلاثة عقود. خلال الساعة التي قضيتها استضافت مائدتي صديقة لبنانية لم نكن قد التقينا بعد إصابتها بشظية من انفجار وقع في مبنى كانت تحتله الأمم المتحدة وسط بغداد وعولجت علاجا مطولا، استضفنا معها دبلوماسيا هنديا كبيرا تعرفت به في القاهرة في بداية حياته الدبلوماسية خلال توقفي بها في رحلتي من الصين إلى إيطاليا، وبينما كنا أنا وزميل خليجي انضم أخيرا نستعد للعودة إلى الفندق اقترب من مائدتنا رجل بملامح مصرية يعرفنا بنفسه، أستاذ بالجامعة يدرس آداب اللغة في الجامعة الإسبانية. تركت الميدان آسفا وراضيا وسعيدا. إنه الميدان ولا شيء آخر كاف دائما لإدخال السرور إلى نفسي والطمأنينة إلى قلبي والتفاؤل إلى مخزون أحلامي وطموحاتي.
توقفت عن الاسترسال في الكتابة لأرد على صديقة تسأل عن انطباعاتي، وما أن عرفت أنني أكتب عن مياديني التي عرفتها إلا وقالت ما تفسيرك؟ كثيرون يكتبون هذه الأيام عن الميادين والساحات. مجلة ثقافية وأدبية معروفة تصدر في دولة خليجية منذ عقود نشرت ما يشبه الدراسة المعمقة عن ظاهرة الساحات. ومجلة هاربرز في الولايات المتحدة، وهى دورية قديمة وبالغة التأثير في أوساط النخب الأكاديمية والسياسية نشرت أيضا ما يقترب من أن يكون بحثا في علم نفس الميادين. انتهت المحادثة الهاتفية. رفعت رأسي عن اللابتوب فوقعت عيناي على شاشة التليفزيون وفي أقل من نصف ساعة رأيت ميادين أعرفها، كلها اجتمعت في هذه النصف ساعة لتشغلني بتطوراتها بقية اليوم. رأيت الميدان المركزى وساحات أخرى في هونج كونج وميدان الطرف الأغر وساحة ويستمنستر في لندن وميادين كثيرة مزدحمة. فكرت وفكرت. الناس فعلا في حاجة لميادين والمدينة نفسها في حاجة إلى ميدان وإلا اختنقت. هناك في الميدان الأمل في أن يلتقي الشباب بأجسادهم وليس فقط بعقولهم. تعود الوجوه لتؤدي وظيفتها فيتعارف الناس ويحتكمون إلى النظرة واللمسة والكلمة المنطوقة وليس إلى أدوات التواصل الاصطناعية. هناك في الميدان تنشأ الثقة بين الجنسين وتقوم الصداقات وتتحرك العواطف النبيلة لتزيح جانبا بل وإلى خارج الميدان الرديء من الأخلاق والحقير من لغة التخاطب والفاسد والمتحرش وكل ما أفسده الازدحام والالتصاق غير المفيد. لهذا الغرض أصر الأجداد والحكام الراشدون على إقامة الساحات ففيها يتنفس الناس ويفكرون وفيها ترى الأطفال وكل الصغار وفيها يحتفظ كبار السن، وقد صاروا هم والأطفال أغلبية في مجتمعاتهم، يستردون فيها بعض حقوقهم ويستعيد الكبار بعض الوقار.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق