… وفي التاريخ، أيضا، “لا بد من صنعا ولو طال السفر” …
وإذا كان بين مشكلات اليمنيين المعقدة أنهم لم يعرفوا بعد كيف يخرجون من التاريخ، بما هو “الماضي”، وأنهم يستوطنونه مسلكا ولباسا وعادات ونظام قيم، فإن بين ما يجهله اليمنيون أن تاريخهم ذاك ـ الذي لم يحفظوه بعناية ـ أغنى بكثير مما يعرفون.
فيوما بعد يوم تتكشف حقائق جديدة، أو تكشف التنقيبات والوقوعات والشواهد الجغرافية أو الجيوتاريخية، أو الدراسات المدنية التي يقوم بها متبرعون أو “فدائيون” أو دارسون لحساب الغير، عن أدلة قاطعة تثبت أن اليمن هي الأصل وهي المنبت وهي المهد للرسالات السماوية التي بنيت عليها أديان التوحيد، كما للجماعات البشرية التي انتشرت جزئيا على أرض المشرق بداية ثم أفاضها الفتح الاسلامي على مدى الأرض التي تحمل الهوية العربية في لغة شعوبها كما في وجدانهم السياسي.
وواضح أننا أمام نقطة انطلاق جديدة لإعادة كتابة تاريخ الثلاثة آلاف سنة الماضية، أو ربما ما قبلها أيضا، وأن ما يصل الى أيدينا من كتابات إن هو إلا البدايات المتحفظة، وأن الحقيقة الكاملة تحتاج الى بعض الوقت لكي تتكامل وتقطع الرحلة الطويلة من القمم الحادة للجبال الداكنة في اليمن إلى النور لينشرها على الناس كافة.
والحقيقة الآتية من عمق التاريخ لا تلقى الكثير من الترحيب عادة، لأنها يمكن أن تلغي أو تنسف التاريخ الرسمي المعتمد، والذي غالبا ما يكون قد “زوِّر” واستقر على صيغة محددة تخدم أنظمة ومصالح وتضفي شيئا من القداسة على ما هو خاطئ أو مزور أو مختلق بالكامل.
بعد الدكتور كمال الصليبي وكشوفه الثمينة والباهرة في كتابه الممتاز “التوراة جاءت من شبه جزيرة العرب”، قرر فرج الله صالح ديب أن يستنطق الصخر والقرى الدارسة والمخطوطات والأنساب وبعض الكتب القليلة التي حفظت شيئا من تاريخ التاريخ في اليمن السعيد.
هذا خامس كتاب لفرج الله، الذي عرفه قراء الصحف والمجلات قديما باسم “خلدون الخالد”، عن اليمن..
لقد قرّر أن يكمل ما بدأه الصليبي، وأن يتوغل الى حيث لم يصل صاحب المبحث الخطير الذي نسف ـ بالدليل العلمي ـ كل ادعاءات اليهود حول “أرض الميعاد” وحول “حقهم التاريخي” في فلسطين، عندما أثبت أنهم إنما هم في أصلهم بعض قبائل اليمن، وأن كل مكان ذكرته التوراة هو بقعة ما في أرض اليمن، وأنهم ما وصلوا إلى فلسطين إلا متأخرين جدا عن “تاريخهم” المزعوم فيها.
وإذا كان كمال الصليبي قد أعاد صياغة الحقيقة عن موسى وهارون وفرعون وشق البحر ويشوع بن نون والشمس وعن نهر الأردن والعبور وعن سليمان الحكيم وبلقيس ملكة سبأ، مسقطا الأساطير والخرافات التي لفقها الكتبة في “التوراة” لأسباب سياسية، وإذا كان الصليبي قد فسر، في جملة ما فسر، السر في تضمين القرآن الكريم ذلك الكم الملحوظ من “الاسرائيليات”… فإن فرج الله صالح ديب كاد يثبت أن ما من يهودي في العالم إلا وفيه شيء من اليمن.
في الكتاب الجديد، الذي أوصلته إليه أبحاثه اليمنية، يحاول فرج الله أن يثبت أن لليمن علاقة حميمة أيضا بالمسيحية والمسيحيين العرب.
وضمن هذا الكشف ما يفيد أن العشائر المارونية بغالبيتها الساحقة من أصول يمنية، بل ان لفظة “مارون” ذاتها وكذلك لفظة “الناسك”، وبالتالي “مارون الناسك” ليست جميعا إلا بعض بطون قبيلة خولان إحدى أكبر القبائل اليمنية.
من بين الشواهد والأدلة التي يقدمها فرج الله صالح ديب سنختار هنا بعض الفقرات التي تؤكد عروبة الموارنة، بل يمنيتهم، وعلى رأسهم مارون الناسك ذاته… في انتظار ما ينقض هذه الرواية المعززة بأسانيد تاريخية:
يجمع من أرّخ للطائفة المارونية انها نسبت إلى القديس مارون، وأن منطلقها كان من شمال سوريا. يقول كمال الصليبي: لقد اهتم الدويهي (أي اسطفان الدويهي البطرك المؤرخ الذي عاش بين 1630 و1704) فعلاً بإبراز واقع الأمر، في أن الموارنة الذين قامت كنيستهم أصلا في وادي العاصي، بالقرب من حماه، اضطروا الى نقل مقر بطريركيتهم الى جبل لبنان (الجزء الشمالي من سلسلة لبنان الغربية).
يقول جواد بولس، صاحب “تاريخ لبنان”: في نهاية القرن الرابع، كان حبيس قديس يدعى مارون. ويلفظ اسمه مُوران أو مران، يعيش في ضواحي أفاميا على نهر العاصي، حيث كانت هذه المدينة مركزا إقليميا في سوريا الثانية في شمال غرب حماه.
ويؤكد الطبري في القسم الثاني من “تاريخ الرسل والملوك”، ان وفاة الوليد بن عبد الملك كانت بدير مرَّان قرب دمشق، وانه دفن خارج الباب الصغير، ويورد أيضا يمانية هذا الدير القرية حين يقول: “سنة ستة وعشرين ومئة، وفيها قتل يزيد بن الوليد الذي يقال له الناقص الوليد بن يزيد.
أما فؤاد افرام البستاني، في كتابه “مارون”، فيرى ان الموارنة يتخذون اسمهم من “مارون الناسك” الذي توفي عام 410م. قرب حماه. فيما يذهب فيليب حتي في كتابه “تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين”، إلى ان مارون الناسك كان الزعيم الأول، وأن يوحنا مارون الذي توفي عام 707م، كان بطل الأمة الجديدة، وأنه ولد في سروم قرب أنطاكية وذلك نقلاً عن الدويهي، الذي أشرنا الى أنه قال: كانت ذات يوم قرب أنطاكية.
في الجزء الأول من كتاب “الإكليل” للمؤرخ اليمني الشهير الهمداني المتوفى عام 350 هـ وردت الأنساب التالية: يقول “أولد خولان: حي وسعد وهانئ ورشوان ورازح والأزمع وصحار. وان حي أولد سبعة نفر، وسعد ثلاثة، ورشوان خمسة، وهانئ خمسة، ورازح عشرة.
أما الأزمع فأولد عشرة نفر كلهم أعقب وهم:
“مرَّان، والكرب والأسووق وحفني وعبد الله ويعلى وثابت وعُمر والناسك. وبعض النساب يقول: شهاب بن الأزمع.
“وقال المسلم بن عباد الأكيلي: رازح خُمسا خولان وازيد. فقال منهم: الأجدود والاتام وغنى وربيعة ومعن ومالك ومنبه ومرَّان ومروان. وكل هؤلاء بنو عمرو بن رازح.
نعود الى البحث. ان كلمة مار تعني بالعربية المدبر. (مَارَ لعياله، قدَّم لهم الطعام)، أليس المدبر البطريركي لقب يطلق على من يدير أمور الكرسي الماروني في غياب البطرك؟ وهو لقب الشيخ الأعلى للعشيرة، ولا تعني القديس. فمار جرجس له حكاية يمنية، وفلسطينية لبنانية، وقرى باسمه في لبنان وسوريا، وله حكاية ومزارات في مصر، وأخيرا لم تعتبره روما قديسا، فيما هو في ذاكرتنا مار جريس الخضر قاتل التنين: البطل.
يقول الدويهي ان “يوحنا السرومي الذي في ما بعد تسمّى مارون، كان ابن اغاتون ابن اليديبوس ابن أخت كرلومانيا البرنس الذي قدم من بلاد فرنسا إلى أنطاكيا، فحكمها وحكم بلاد سوريا في دولة الروم كما تخبر قصته المكتوبة بخط كرشوني، في كتاب قديم، في كنيسة السيدة كرسي دمشق على هذه الصفة”. وفي الصفحة نفسها (113) من الفصل الثامن يكرر الدويهي نسب يوحنا مارون السرومي على انه فرنسي ابن اخت ملك فرنسا.
هكذا أدخل الدويهي اسم مارون في التوراة، وغرَّب يوحنا مارون السرومي، وعارض رأي ابن القلاعي في نسبه الى مارون، وأصر على انه تكنى بمارون على اسم الدير في حماه ومنه اسم الموارنة، “أما اسمه الخاص فهو يوحنا أغاتون” الفرنسي الأصل. وبما ان قورش قد خلفه على كرسي البطريركية فقد جعله حفيدا لأغاتون الفرنسي.