العروبة ليست هويتنا. العروبة هي وجودنا. كل فرد أو مجتمع متعدد الهويات، لكن وجودنا واحدٌ؛ وإن لم يتبلوّر في وحدة سياسية؛ وهي لا بدّ آتية. وما تُسمى الوحدة الشعبية، أو وحدة الشعوب، ليست مطلباً لأنها متحققة فعلاً، كما ثبت في ثورة 2011، حين كان نبض القلب والضمير لكل عربي واحداً.
وحدة الشعوب أو الوحدة الشعبية العربية أمرٌ مفروغٌ منه. المطلب المأمول هو وحدة الأقطار العربية. هذه لن تتوحد إلّا بإرادة شعوبها، وبعد أن تُبنى دولها وتكون الهوية في كل منها لها.
عندما تستنفد الأقطار العربية أغراضها كدول مستقلة بمواطنية أبنائها وحريتهم سوف تتوحد. وسيكون الأمر خياراً سياسياً يفرض نفسه. لا تتحقق الوحدة العربية بالاستبداد والقسر، وفي كل من أقطارها استبداد وتخلف وأصولية دينية. ستكون تلك الوحدة تعبيراً عن الحداثة والتقدم، وستكون أمراً سياسياً يتحوّل الناس فيه من رعايا إلى مواطنين، ومن أتباع إلى شركاء، ومن متلقين متفرجين إلى مبادرين وخلّاقين. وما يجعل الأمر ممكناً هو اللغة العربية الفصحى. إذ هي ما يجعل التواصل ممكناً والتفاهم محتماً.
إن جدلية قيام الوحدة العربية هي أنها سوف تتحقق حول نقيضها، وهو وجود الأقطار العربية، بدولها التي يجب أن نحرص عليها ونساهم في بنائها وتنميتها ودفعها على طريق التقدم والحداثة، وبالتالي ستكون وحدة فيدرالية أو كونفيدرالية. حاول الإسلام السياسي والقومية العربية أن يُصادرا هوية الوجود العربي على صورتهما، ففشل كلٌ منهما. هويتها الوحيدة هي الحرية. حرية الضمير والوجدان عند الفرد والجماعة، وقد عبّر الشاعر عنها بقوله:
وللحريةِ الحمراءُ بابٌ بكلِ يدٍ مُضرجةٍ يُدقُ
الاستبداد نقيض الوجود العربي، وقد رأينا الإسلام السياسي والقومية العربية حليفان، بل سبباً له. وفي النهاية، العروبة ليست فكرة أو مجموعة أفكار، تذهب وتأتي، أو تزدهر وتذوي، كما قيل عن أن القومية العربية فكرة، وكذلك الإسلام السياسي فكرة. فالوجود العربي يُعبّر عن نفسه بالحرية لا بالقومية أو الأصولية الدينية، وكما الإسلام السياسي أصولية تُنهي الدين، فكذلك القومية عبء على الوجود العربي. الوجود العربي انتماء يُحيّي الحرية ويجعل الحياة خياراً سياسياً لا قسراً وإكراهاً يلغي السياسة ويمنع المواطنية، ويجعل المشاركة عن طريقها أمراً بعيد المنال. الأقطار العربية كيانات راسخة والشعوب العربية موحدة المشاعر والوجدان. والتوحد العربي أو الوحدة العربية تتحقق بالحرية، وهي نقيض الاستبداد.
العروبة مصدر الحرية. هي موضع الضمير الذي لا غيره يُقرّر الأفكار والأفعال. فهي بالتعريف نقيض لكل سيطرة أجنبية سواء كانت إسلامية أو إيرانية أو تركية (مثلاً) أو أوروبية أو امبريالية أميركية أو ما شابهها. العروبة هي الوجود بل الذات التي تؤكد على نفسها في وجه غيرها، ولا يهمها الأخذ بأفكار الغير، كالغزو الثقافي أو التقليد التكنولوجي. خلاصها بتبني الثقافة العالمية. وهذه هي الثقافة الغربية التي لا خوف منها أو مما سمي بالغزو الثقافي، لأن العروبة هي في الأساس طريقنا إلى العالمية والأممية. ومجد العروبة كان عندما كانت هي الثقافة العالمية في أيام ازدهار الثقافة العربية وتقدمها على الآخرين في كل المجالات.
العروبة ترفض التقوقع وانكفاء الذات على نفسها. فهي مصدر اعتداد، وتعبيرٌ عن وجود لا يجد ضيراً في الخروج إلى العالم والاندماج فيه. لذلك كان تناقضها مع الإسلام السياسي وعدائه لها. فليس بغير العربية يُحفظ الدين، ويستقيم أمره، ويخرج من إطار العقائد والمذاهب إلى صفاء الإيمان.
القوميات غير العربية تحتاج إلى الطقوس والاحتفالات والمهرجانات الدائمة أو المتتالية للتأكيد على الدين أو المذهب، في حين أننا لا نخشى تفسير الكتاب بالشعر الجاهلي لأن العروبة ضامنة للدين وليس العكس. لا خوف لدى هذا الوجود العربي (العروبة) من أديان ومذاهب أخرى. فالحرية المنبثقة من هذا الوجود تُعصى على كل مذهب، مما يعتبر إضافة إليها، وما أراد الكتاب إلا التأصّل بها.
تستعصي العروبة على الصهيونية اليهودية والمسيحية، وعلى كل الصهيونيات الإسلامية. فكل أصولية تستبطن صهيونية ما، وإن تلبست في الظاهر يغير ما تُضمر. وتستعصي العروبة على كل امبريالية سواء صدرت هذه عن دولة عظمى أو عظيمى. فلها في وجودها غناء عن ذلك. والنصر مكتوب لها لا لغيرها أو لبعضها الذي منها ويتبع غيرها. ولا مقاومة أو ممانعة إلا بها ومنها. فهي الامتناع على الغير. ومن ودّع العروبة وكتب في ذلك أو ابتدع مقاومة بغيرها لا بد له من العودة إلى المتنبي، وأبي تمام، والفرزدق، وجرير، والأخطل، وامرؤ القيس، والنابغة، وأمثالهم. فقد أودعنا النحاة من أمثال سيبويه والأصمعي وشيخهم الخليل بن أحمد وسائل فهمها واستبطانها في الضمير؛ والذي قال وغنّى “الأرض بتتكلم عربي” غنّى في ذلك أن أرضها لا تُؤخذ إلا كما في أيام الفرنجة أو إسرائيل، أو أصحاب المذاهب التي تريد الحلول مكانها.
العربية وجودٌ وليست فكرة دينية أو قومية. الغير صادر قضية فلسطين باسم الدين، ومارس الاستبداد باسم القومية. وكان ذلك في خدمة الغرب الإمبريالي والقاعدة الاسرائيلية التي ينطلق منها. وهي، أي العروبة، مصدرُ تسامح مطلق لأنها تعرف أنها الوجود الذي تأسّس عليه كل ما عداه. ومن جاء ليصادر قضية فلسطين للبناء على غير العروبة صار مهزلة التاريخ؛ ومن أقام أنظمة سياسية على أسس الاستبداد والاستهلاك والاعتماد على علوم لا ترتبط بالإنتاج ضلّ، لأن العروبة وجود متجدد ينتج نفسه وما يحتاج إليه. فلا إصلاح بغير العروبة، ولا حرية بدونها. فهي أممية كونية بطبعها، وعندما نقول الخروج إلى العالم فمعنى ذلك أنها استيعاب للعالم في ذاتها، ولا تنكّر لذاتها باسم هذا الخروج.
كل وجود يتطوّر ويتحوّل وصولاً إلى الحداثة، وإن وقف ضد ذلك إسلام سياسي كان مطية للامبريالية العظمى والعظيمى. فمن كونيتها وأهميتها تصل الحداثة بعد قرن من الأصولية التي أجهضت النهضة التي بدأت في القرن التاسع عشر، وكان من أعلامها الأفغاني، ورفاعة الطهطاوي، ومحمد عبدو، ورشيد رضا (قبل أن يصير سلفياً). الحداثة تُدمّر التقليد والتقاليد. وكل ما هو موروث يُلبِّس العروبة ما لا تستحق أن ترتديه.
لا بدّ للعروبة من دولة أو دول ينتظم فيها وجودها. وما الدولة إلا انتظام مجتمع يصير فيه الأفراد مواطنين مشاركين لا رعايا تابعين. الإصلاح هو أن تكشط عن وجهها زيف القرن العشرين، وما أدى اليه من مآسٍ تجلت في حروب أهلية، كانت في حقيقتها حروباً على العروبة والوجود العربي. وعلى مثقفي العروبة الإمعان فيها كي يصلوا إلى الحداثة ومجتمع الإنتاج، مع أولوية الإنتاج على الاستهلاك. استهلاك ما لا يلزم من التكنولوجيا والأفكار. التكنولوجيا المطلوبة هي ما ينتجه العلم عندنا، وقد غاب عنا قروناً طويلة وتراجع العقل وما ينتجه، حتى فقدنا الثقة بالنفس، وصار موئلنا الاعتماد على الغير الذي انقلب امبريالية مدمرة، تُخرّب ولا تُنظّم، وتُلغي العلم (الحديث) لصالح الأصولية والعلم التقليدي، فباتت المجتمعات العربية عاجزة عن إنتاج ما تستهلك من أدوات الفكر والمادة. ولا تفريق بين الفكر والمادة إلا للتمييز والتحليل والفهم.
التحرير خارجي والحرية مصدرها الضمير والوجدان. وقد اعتمد الاستبداد السياسي والأصولي الديني على التحرير مكان الحرية. فأعادونا إلى غياهب الامبريالية وألغوا مفاعيل الاستقلال. ترتاح العروبة إلى التاريخ لا إلى الماضي. والتاريخ هو ما نصنع بالإرادة. وهذه لا مصدر لها إلا الضمير والوجدان. وما دامت فلسطين في الوجدان فلا خوف عليها من صهيونية يهودية أو مسيحية أو إسلامية، مهما كانت المآسي التي تحل بها وبنا.
يمعن الأميركيون والإسرائيليون في انتهاك الوجود العربي، ويُنكرون أنه يتمثّل باللغة والأرض، وفلسطين محورها، وبالوجدان الشعبي، وفلسطين في ضميره. وتعينهم قوى محلية ترفع شعارات تبدو على غير حقيقتها، وتُزيّف القضية، لكنها تساعد الإمبريالية الأميركية والصهيونية على ارتكاب جريمة العصر، لا صفقة القرن، واستكمال إبادة شعب فلسطين، وإخضاع بقية العرب باستخدام القوة، وبالاستعانة بالمنظومة العربية الحاكمة ونظامها الاستبدادي. وما اقتراحات ترامب الأخيرة حول تهجير أهل غزة سوى شكل من أشكال التطهير العرقي الذي يضمر في قلوبهم وضمائرهم ما لم تبلغه النازية الهتلرية. وما صمت الشعوب العربية إلا نتيجة ما أصابها من تنكيل وقهر بعد ثورة 2011. والسؤال الكبير هو الآتي: متى يستعيد الوجود العربي قوامه؟ فالعروبة والامبريالية الأميركية على طرفي نقيض. وذلك هو تناقض العصر الرئيسي، والأمر يتطلّب منا البحث في الأسباب والنتائج.