ولدت في الوقت المناسب لأكون شاهدا، وإن بدون وعي كاف، على دولتين كبيرتين استحقتا بتضحيات هائلة خلال الحرب العالمية شرف الاستحواذ على قيادة العالم وتحمل المسئوليات المترتبة على هذه المهمة. قضيت بعدها فترة عقدين أراقب، بوعي معقول ودور متواضع، انحدار فسقوط دولتين كانتا في صدارة القوى الأعظم وبين الأقدم في التاريخ الحديث. الآن يملأ حواسي ويشغل اهتمامي الرغبة في أن أكون شاهدا، بكل الوعي الممكن، على حال وتفاصيل انحسار مكانة دولة كانت قائدا للعالم على امتداد ثلاثة أرباع القرن، وبحسابات أخرى قادت قرنا بأكمله أسماه البعض باسمها، وشاهدا في الوقت نفسه على حال وتفاصيل صعود دولة كانت عند القاع أو أعمق على امتداد قرنين أو اكثر قبل أن تتمرد في منتصف القرن الماضي وتشرع بطاقة هائلة في انتزاع ما سلب من كرامتها. هذه الدولة، هي الصين، التي تقف الآن عند الخط الأصفر، خط الانطلاق لاستلام الجائزة الكبرى، مقعد في القمة الدولية.
***
تختلف أسباب وظروف انحدار الكيانات الدولية من مواقع القيادة في كل حالة عن الحالة الأخرى، تماما كما تختلف أسباب وظروف صعودها إلى هذه المواقع. نكاد من فرط الاختلاف أن لا نتعرف من المظاهر وحدها على دولة يؤكد التاريخ أنها من نسل كيان إمبراطوري قاد أو شارك في قيادة العالم المعروف وقتها. لا أجد مثلا الكثير من أوجه الشبه بين المجر التي يرأس حكومتها الآن فيكتور أوربان وبين إمبراطورية المجر ورومانيا التي خضعت لحكم بيت الهابسبرج وهيمنت على أقاليم جغرافية شاسعة ودخلت حروبا ضارية وتسويات إقليمية واسعة مع إمبراطوريات أخرى. إلا أنني أجد أكثر من وجه شبه بين الصين التي يرأس جمهوريتها الآن الرئيس تشي والصين التي كان يرأس جمهوريتها الرئيس ماو والصين التي كان يقودها الزعيم صن ياتسين والرئيس شيانج كاي شيك والصين الإمبراطورية سواء عند انحلالها وتهتكها تحت أقدام أبشع ممارسات أمراء الحرب وإقطاع البيروقراطيين أو تحت أقدام أشد ممارسات الاستعمار الغربي توحشا أو في صعودها وتألقها في عهود الهان الذين مهدوا أول طريق للحرير والتانج والسونج والعهد الذهبي لإمبراطورية المنج التي وصل أسطولها إلى شرق أفريقيا. قائد هذا الأسطول واسمه جينج هيه يحتفلون به هذه الأيام باعتباره القائد الذي دشن طريق الحرير البحري في القرن الخامس عشر. الصين، ككل مفرداتها وجزئياتها، دوائر تبدأ عند نقطة لتعود اليها. من رماد الهلاك والفساد والحروب الأهلية تنبت أغصان الخير والسلام والاستقرار لتعود عوامل التخريب والشر فتحيلها رمادا وهكذا.
يصعب أن أتصور وضعا مماثلا يحدث في تركيا. لا أرى الإمبراطورية التركية التاريخية كيانا قابلا للتجدد أو إعادة الخلق أو الالتئام تحت قيادة الطيب إردوجان أو خلفائه. ولا أرى إمبراطورية روسية في شكل جديد برئاسة فلاديمير بوتين أو خليفة له تخضع لها أقاليم شاسعة مثل الأقاليم التي خضعت لحكم القياصرة الروس. لا أشك للحظة في أن تركيا وروسيا سوف لن يستقر سلام فيهما أو حولهما إلا إذا تخليا عن وهم استعادة كيان إمبراطوري لكل منهما، والأسباب عديدة بينها افتقار عقيدة الكيانين بوضعهما الراهن إلى ثقافة وهوية وحوافز تجتمع عليها مختلف الأمم المجاورة التي يمكن أن تخضع لهذا المركز الإمبراطوري أو ذاك.
***
تقف الصين هذه الأيام متهمة بنوايا التوسع بالنفوذ عن طريق التجارة ومنح القروض وليس عن طريق العنف كتجارب معظم الإمبراطوريات التاريخية. تجاربنا، كأطراف جربت التوسع أو كانت ضحية له تكشف عن أن للتوسع على مر التاريخ دوافع ومبررات. الدول، أو الكيانات السياسية عموما، تميل إلى التوسع أرضا أو بالنفوذ لو أنها سبق وتعرضت لظلم تاريخي ومهانة قومية خلفت جروحا لا تندمل. تسعي أيضا للتوسع لو تحولت الزيادة في السكان من حال الرصيد الإيجابي إلى حال الفائض المستنزف للنمو والاستقرار، وتتوسع أو تسعي إلى التوسع لو أنها حققت فائضا في الإنتاج يؤدي استمراره إلى تعطل طاقة الإنتاج وتدهور قيمة المنتجات، أو لو أن حاجتها إلى المادة الخام تجاوزت الناتج المحلي منها أو حدث ما يهدد ضمان وصولها بانتظام وبأسعار مناسبة. بعض الدول، ولأسباب تتعلق بنوعية حدودها السياسية ومتاخمتها لمواقع إنتاج وتخزين أو مصادر مياه، تسعى للتوسع في أراضي كيانات أخرى لتستفيد من مساحات حيوية تضمن لها خطوط دفاع أكثر منعة.
هناك أيضا نماذج معروفة لدول وكيانات توسعت لا لشيء إلا لإشباع شره وجشع أو لإطفاء جذوة عنف داخلي ورغبات عدوانية شرسة. نظامنا العربي القديم شاهد على محاولات عديدة من دول عربية للتوسع العدواني أو التآمري على حساب الغير. إسرائيل تقدم النموذج المتجدد لزحف متواصل على أراضي الفلسطينيين ولدعم قوى من دول عديدة لتنصيبها دولة قائد بين قادة آخرين في الإقليم. المثال الأبرز للنمط الغربي في بناء الإمبراطوريات الحديثة جسدته الولايات المتحدة الأمريكية بتجارب التوسع على الأرض والنفوذ بعضها بالحرب والآخر بأساليب متنوعة مثل التجارة والشراء بأثمان بخسة. الصين، مثل غيرها، لم تفلت من هذا الاتهام، فهي تنازع فيتنام والفلبين على جزر في بحر الصين الجنوبي وتبني الآن جزرا اصطناعية لتنشئ عليها قواعد عسكرية، وتطالب اليابان بالتخلي لها عن ملكية جزر صخرية في بحر الصين الشرقي ودخلت حربا مع الهند بسبب نزاع على منطقة حدود وتشترك مع روسيا في خلاف مكتوم حول مساحة علي حدود سيبيريا مع روسيا. إلا أنه لا يمكن القول أن الصين تتوسع الآن بالقدر الذي توسعت فيه اليابان في شبه جزيرة كوريا متسببة في حروب وكراهية شديدة ومتبادلة، أو بالقدر الذي توسعت فيه اليابان في الصين واحتلالها منشوريا. يبقى سبب أو دافع آخر للتوسع استخدمته القوى الاستعمارية الغربية، وهو الزعم بتحمل مسئولية بث ونشر أفكار وقيم والدعوة منظومة أخلاق مغايرة، بمعنى آخر نقل رسالة الرجل الأبيض المتحضر إلى عالم الملونين المتخلفين في كافة أنحاء العالم.
***
أخيرا، قررت الصين تدشين مبادرة الطريق والحزام. مبادرة تهدف إلى تقريب المسافات وتعزيز التواصل بين الدول عن طريق إنشاء شبكة من البنى التحتية وطرق المواصلات فتنشط التجارة وتتقارب الثقافات. تتعهد الصين بتحمل جزء من أعباء تنفيذ هذه المبادرة على أن تتحمل الدول المشاركة وشركاتها أنصبتها في تسديد القروض وفوائدها المتواضعة نسبيا.. العمل في تنفيذ المبادرة جار بالفعل. قطارات بضائع على خط سكك حديدية من الصين إلى أقصى غرب القارة الأوروبية، وقطار من إثيوبيا إلى جيبوتي ولحمايته وحماية مشروعات أخري في شرق أفريقيا والبحر الأحمر أقيمت قاعدة بحرية صينية لتنضم إلى سلسلة من القواعد يغص بها الآن شاطئ جيبوتي. يمتد طريق بري من مقاطعة سنكيانج منتهيا في ميناء جوادار في إقليم بلوشستان بجنوب باكستان حيث تقام قاعدة بحرية هي الأضخم في المنطقة. طريق آخر يعبر إقليم كشمير في المنطقة المتنازع عليها بين باكستان والهند. الهند بطبيعة الحال غاضبة ولعلها الدولة الأعلى صوتا في انتقاد المبادرة والتحذير من تحميل الأجيال القادمة في العالم النامي عبء تسديد القروض وفوائدها.
***
ما كان يمكن أن تجد الصين وقتا أنسب من الوقت الحالي لإطلاق مبادرتها. لقد جربت شعوب العالم، أغناها وأفقرها، العولمة كما ابتدعها الغرب منذ انطلق يستعمر دول الجنوب قبل أربعة قرون وأكثر، وكما طورتها الولايات المتحدة وأعادت صياغتها على نمطها في الحياة والإنتاج والتفكير والتسويق والاستهلاك والإعلان فاستحقت فعلا أن تكون عولمة أمريكية. الصين تنفي نيتها بأن تكون هذه المرحلة من مبادرتها القفزة الأهم نحو بناء عولمة على النمط الصيني. الظواهر تشير إلى أن نجاح المبادرة يعني الإقبال المتزايد على استخدام سلع وخدمات صينية والتعود على منتجاتها الثقافية وربما نمط التفكير الشرقي. يعني أيضا تجاهل قيم وأخلاقيات غرستها عولمة غربية كسيادة القانون واحترام الدستور وحق المصير وحريات التعبير والعقيدة.
مبادرة الطريق والحزام كرسالة من الشرق تختلف جذريا عن رسالة من الغرب حملها الاستعمار الأوروبي وطورتها الولايات المتحدة. رسالة الشرق تضمن مزايا خدمية ورعايىة اجتماعية وصحية لعدد أكبر من الناس في شتى أنحاء العالم، ولكنها لا تضمن حماية حقوق الناس وحرياتهم وحقهم في تقرير مصيرهم. المثير هو أن الغرب يتخلى الآن تدريجيا عن رسالته تاركا الساحة لرسالة من الشرق تبشر بعصر جديد وأخلاقيات وأنماط حياة مختلفة.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق