لأن السياسة العربية مزيج من اليأس والتآمر والتذاكي واستنقاذ الذات ولو على حساب البلاد،
ولأن الشخص أهم من الموضوع أو حتى القضية،
ولأن الشكل أهم من المضمون،
ولأن التحليل ثرثرة، والتعليق خطاب أجوف، والتوجيه أمر عسكري بنبذ التفكير والاجتهاد،
ولأن الكذب مباح، إما بذريعة ان الضرورات تبيح المحظورات، وإما بحجة ان الشعب قاصر وضعيف ولا تجوز القسوة عليه بإبلاغه الحقيقة وإشراكه في القرار مع أنه يحمل النتائج مهما ثقلت وبغير رحمة،
لهذا كله تتيبس لغة الكاتب أو الصحافي وتتخشب.
إنه مجبر على استخدام الكلمات في غير مواضعها، ولغير معانيها الأصلية،
ثم ان الحركة المحدودة بالأشخاص والأزمنة والأمكنة تسقط من الذاكرة أدوات التعبير عما عدا هذا الركام من التفاهة الذي يسمى »السياسة«.
يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، لا تستخدم إلا كلمات محدودة، في توصيف أوضاع مرفوضة مهما اجتهد كتبة السلطان في تزيينها وتمويه حقيقتها الجارحة.
تصبح للغة وظيفة التخدير والتنويم المغناطيسي، بعد إنجاز مهمة الخداع وتزييف الوقائع والترويج للخاطئ والمضلل من »الأخبار« ومن ثم »النتائج« التي تبنى عليها لزرع مزيد من الأوهام في خواطر الجمهور المتعب، الذي تنحصر مطالبه من ثم في أن يترك لشأنه، يبحث عن توفير القوت لعياله مناشداً ا” سبحانه وتعالى اللطف في القضاء إذا هو لم يرحمه برده عنه.
تتكسر اللغة وتتهاوى مندحرة، ويصاب الوجدان بالشلل بعد أن تظلل غمامة التزوير العيون فتعميها أو تجعلها ترى ما ليس واقفاً وتعجز عن رؤية المسؤول عن الواقع الكريه.
تتبعثر اللغة كلمات وحروفاً ومقاطع وجملاً مفككة.
يهاجر المعنى بعيداً عن الكلمات فلا تبقى إلا أصوات متقطعة تتردد أصداؤها كالدوي أو الطنين،
ويقع ذلك الانفصال المطلق بين القائل والقول وبين السامع والمسموع، ويلتبس الأمر على الجميع فلا يعود أحد يعرف من الضحية ومن الجاني: هل العيب في الفكر القاصر أم في اللغة العاقر؟! في الواقع أم في الخيال؟!
وفي خضم الاتهامات والجبن عن إدانة »القوة القاهرة« التي تفرض الخرس أو التأتأة على الجميع، يدان الضحايا مرة ثانية: كما تكونون يولى عليكم!
في حالات أخرى يكون »الحكم« أقسى: هذا الحاكم، أو ذاك، أرقى من شعبه. إنه عظيم بأكثر مما تستحق رعيته!
الجمهور، الفكر، اللغة: كلهم متهمون.
و»الكتاب« يحاولون عبثاً تلفيق صيغة للتعايش مع هذا البحر الأجاج من الخطايا وجرائم التزوير، وغالباً ما يتم ذلك بالتدليس، أو بالهرب الى الرمزية والايحاءات والتوريات والتعابير حمالة الأوجه والتي قد تفيد هذا المعنى أو نقيضه.
والكلمات أصناف:
بعضها مَبيع سلفاً، والبراعة تقتصر على رصفها بما ينفي أو يخفف من وطأة الغرض الذي أملاها، وبعضها يستدرج عروض الشراء، وبعضها الأخير للتقية نفاقاً أو يهرب إلى العبثية جبناً وإراحة للضمير من أن صاحبها لم يرتكب خطيئة التزوير ولا هو سقط في غيهب الصمت ولا تمكن إدانته كشاهد زور: فهو قد رأى وسمع وعرف ولكنه لم يزور الحقيقة وإن كان امتنع عن الإدلاء بشهادته القاتلة.
ليس الخوف وحده هو الذي يفرغ الكلمات من معانيها.
إنه العجز عن مواجهة المخيف ومصادر الخوف ذاتها.
هل هذا يفسر ليل الصمت الطويل الذي يكاد ينعدم فيه أي إبداع، في الثقافة كما في الفن، في الفكر السياسي كما في الابداع الأدبي، في طراز البناء كما في معالجة المشكلات البيئية الحادة (الصحراء، ترييف المدن)؟..
هل هذا يفسر انزواء الشعر داخل النقاط المبعثرة والمساحات البيضاء، وتيه الرواية في سراب العالمية وانطفاء القصة القصيرة، وهذا الازدحام المخيف في مجال الفن التشكيلي الذي يكاد يجعل من كل مواطن رساماً، أو في مجال الرقص التطريبي الذي يكاد يجعل من كل فتى تحت السن نجماً لامعاً في سماء الغناء المموسق آلياً، والذي تحار في تحديد أيهما الأكثر جفافاً: الصوت أم الآلة المبرمجة بالكومبيوتر على »ترقيص« الكلمة التافهة ليسمعها الهاربون من الخواء بخصورهم فيحركون أقدامهم فوق جثث المعنى حتى »الوصول« الى ذروة النشوة المخضبة بالعرق؟!
لقد تقعرت الكلمات أو هي انبعجت فاتخذت أشكال السلاطين وباتت مثلهم: لا تدل على معناها، أو تقول غير ما تضمر.
اقتعد الملوك في الأحرف وحولوها الى أملاك خاصة.
صارت الحروف ثقيلة لا تملك أن تعبر عن معناها، صارت لغتنا أسرة حاكمة… أما المحكومون فقد خسروا أيضا، بعد الشارع والحقوق، لغتهم. صاروا يهمهمون همهمة لا يفهمها حتى مطلقها ولا تدل على معنى محدد.
من يسقط جدار الصمت؟!
شوقي بزيع بين ذئب يوسف وقميصه..
كل عاملي شاعر حتى يثبت العكس،
وليس مبالغة أن يصنف جبل عامل أرض الشعر ومنبت الشعراء في لبنان.
لعلها الطبيعة، لعله المخزون الثقافي، لعله الحرمان وإدمان القهر، لعله ذلك المزيج من الظلم والشقاء وفقر الأرض مع رهافة الحس والعجز عن المشافهة في المواجهة، لعله التراث النجفي والسبق الى تلقي العلم، ولو في الحوزات، لعله الصراع من أجل إثبات الذات وتوكيد الهوية، لعلها فلسطين بنضالاتها الطويلة، ثم بمأساتها العميقة وقد تلقفها أولئك الذين يستوطنون »عاشوراء« ويحملون كربلاء في وجدانهم ولا يرتضون الانفصال عنهما.
لعله عطر زهر الليمون وشميم الصعتر والحبق والمردكوش والروائح النفاذة لعرق الجبين في الوجوه التي تتخذ ملامحها من لون الأرض، لعل كل ذلك معاً يتفاعل فينتج كل هذا الشعر وكل هؤلاء الشعراء الذين يحفظ لهم »العامة« قصائدهم ولا سيما تلك التي تمس شغاف قلوبهم برقتها، أو تثأر لهم من المتحكمين والمتسلطين بمنحاها النقدي الذي يداني الكاريكاتور وقد يتخطاه.
شوقي بزيع واحد من هؤلاء الشعراء العامليين الذين كادوا يشكلون حزباً أو تياراً، ذات يوم، وصنفهم البعض بجهويتهم (شعراء الجنوب) وكان في هذا التمييز إساءة أكثر مما كان فيه من التقدير.
وفي شوقي بزيع، وربما في كل شاعر، شخصيتان لا تكفان عن الصراع: الشاعر فيه يريد دائماً تجاوز الانسان فيه، والنجاح صعب أو في منزلة المستحيل.
شوقي بزيع في ديوانه الأخير »قمصان يوسف« يغلب الرجل فيه، على الاثنين، ويدفع »كفارة« عاملية النكهة هي الأخرى، في قصيدة مهداة الى الشاعر القاضي السيد محمد حسن الأمين.
لكن البراءة تظل معلقة بالقميص.
وكل مجد شوقي بزيع انه يحاول إثبات أنه غير بريء… وانه في البئر أو في الطريق إليها:
»واقف كالألف العمياء في بوابة الحيرة،
مرتاب، وما في قبضتي إلا عصا
ينخرها الشك الذي يقطعني،
….
»أصرخ في برية مغلقة كالبئر من حولي
وما من أحد يسمعني«
وليس صحيحاً أن شوقي، مثل يوسف النبي، قد عاد من لجة البئر حتى لا يعود الى البئر ثانية. إنه يتوغل مصراً على اكتشاف قعر البئر وأصل المياه. انه يريد أن يعرف الأجوبة على الأسئلة جميعاً، ويريد أن تحبه النساء جميعاً وأن يحبهن جميعاً. الى جهنم القمصان مقابل الرعشة الأولى، ومقابل أن »تمزق البراكين الحمراء أقفالها وتهرول تحت ثيابك، فسرك أن تكون جديراً بسحرك«…
المنطلق يستند الى بيت لأبي العلاء المعري:
»جسدي خرقة تخاط إلى الأرض
فيا خائط الخلائق خطني«
لكن رحلة شوقي بزيع مع »قمصان يوسف«، وقد حددها بثلاثة: قميص التجربة وقميص الشهوة وقميص الرؤية، تمتد بعيداً لتشمل اليوسفات في كل عصر… وهو يحاول أن يخيط نفسه الى جنبات الأرض قبل أن يخيطها بوحل الأرض ذاتها:
»دع قميصك للذئب
كي تنتهي عارياً كما كنت
واهبط الى آخر البئر
كي تستحق جمالك..«
لكن الزمان اختلف، ولم يعد بالإمكان في هذا الزمان الآخر أن يبرأ الذئب من شبهة الدم فوق قميصك… ربما لهذا تدوي »نصيحة« شوقي بزيع:
»لم أبح بعد بأسراري
وقد كثَّرني اني عديد بين قتلاي
دمي أغزر ما تزهو به
جوهرة الخلق
ولم أُظهر لمن يحصونني
إلا أقلي«
لكل يوسف زليخته، ولكن شوقي يرى زليخة في كل امرأة يتشهاها خصوصاً و»قلبي فائض عني، وعيناي جحيمي«؟!
لكن حظ شوقي عاثر، بعكس يوسف، فهو لا يجمعه جمع فيلتف حول جذعه، ولا يقسمه حظ لكي ينفذ من ثقب السماوات الى مجراه،
ومثل يوسف، ليس بين شوقي وكل زليخة أحب إلا »قميصان من عفة وتشهٍّ«…
كل النساء زليخة. وكل قمصان شوقي بزيع مشقوقة من دُبُر، ومع ذلك فهو يندفع نحو الغوص في وحل الحقيقة كيما يجدد ما قوّض الطين فيه، مؤمناً بأن »لن يرث العشب عشب سواه«.
كل النساء زليخة، ويوسف شوقي واحد. وهو يستهلكهن واحدة اثر الأخرى، لكنهن يتوالدن باستمرار، بل ان كل واحدة منهن تولد من نفسها مرة ثانية، وكلما سقطت شمسها في الكسوف ضمدتها بيديها…
كل النساء زليخة. لكن زليخة شوقي تلاعبه وتلعب به، وتتركه في قميصه السليم يغني لوعته لغيابها:
»لم تدقي الباب من عشرين شهراً،
غير أني كلما حالفت الريح
خطى في الليل
أو دق غريب جرساً في مدن أخرى
تدافعت الى الباب
كما لو أن في صدري عشرين حصاناً«.
لكلمات شوقي بزيع في ديوانه الجديد رائحة الحريق.
وزليخة يوسف هي »س« شوقي مضاعفة بظلالها الكثيرة.
وشوقي يتشهى أن يهبط الى آخر البئر، تماماً كما يتشهى أن يسمع جميع الأجراس التي تقرعها أسماء »السينات«:
لاسمها جرس لا يسمى،
والغيوم كنائسها العابرة
.. والقمح أكثر أيتامها صفرة
وتدافع عن صدرها بالسيوف
وعن ثغرها بالقبل…«.
والطريق الى آخر البئر طويلة، وشوقي بزيع يفرد ابتسامته على مدى وجهه كله، ويعبئ في قلبه كل الزليخات ثم يمضي قدماً، قاصداً آخر البئر فيجيء بيوسف وقميصه والذئب!
“تقاسيم” التونسية: الوجدان سليم!
جئن من تونس: بضع عشرة زهرة تقودهن مديرة ومديرة، أولاهما في الموسيقى والثانية في كل شؤون الحياة. وقد شهد »مسرح المدينة« في وجود هذه الفرقة الفتية تظاهرتين: الأولى فنية جاء إليها المهتمون بالتعرف إلى الأمزجة الفنية المتنوعة عربياً، أما الثانية فقد استقدمتها تلك الصبايا المجتهدات واللواتي أجهدهن الرد على ثناء المعجبين الكثير بالمجاملة التونسية المحببة: »يعيشك، شكراً يا سيدي، يعيشك«!
العازفات المنشدات جميعهن من متخرجات المعاهد الموسيقية التونسية، وبينهن فتيات ما زلن على مقاعد الدراسة، وبعضهن يتهيأن لامتحانات البكالوريا.
لا الأصوات خارقة الطلاوة، ولا العزف متفوق في مستواه، لكن المبادرة بذاتها طيبة: ان تهتم صبايا في عمر الورود بالتراث الفني لبلادهن، وأن يعملن ضمن جهد مميز لنشر هذا التراث وتعميمه.
المهم ألا تحدث القطيعة بين الجيل الجديد وموروثه الوجداني.
المهم أن يحترم إنساننا ذاته، أرضه، أهله، تاريخه، فلا يهرب من ذلك كله الى الهجانة والتغرب، تارة بذريعة الخواء الثقافي، وطوراً بذريعة عجز الموروث عن تطوير ذاته أو عن مجاراة موجة التطور التي تجتاح الدنيا.
والمهم أن يتأكد اليقين من وحدة الوجدان العربي، حتى لا يذهب هو الآخر مع الأرض والعقائد والمفاهيم الوطنية والقومية التي يتم تقطيعها وتفتيتها كل يوم وترمى كالمهملات في الماضي المخجل أو في الحاضر المهين.
المسألة بسيطة كما تجلت في حفلة الفرقة التونسية »تقاسيم«، ومن قبل مع الشيخ »الحلبي« حسن الحفار، ومع عناية جابر في حفلة تكريم المبدعة »المصرية« الراحلة ليلى مراد: ان الوجدان العربي معافى لم تدمره موجة الزيف والتقليد والرخص والميوعة السائدة.
ما زالت مصر في الطليعة، بكل تراثها الغني وبكل الإبداع الفني المتراكم، وبسبقها الى التأصيل، ثم بغناها الفني الذي امتزجت فيه وتداخلت الألوان »الوافدة« من الأقاليم الأخرى: »الشامي« و»المغاربي« و»الأفريقي« و»الخليجي«، ثم أعيدت صياغتها وأطلقت لتعم الأرض العربية جميعاً.
ولقد بات للبنان حضوره الطيب، ليس فقط بفيروز وماجدة الرومي، إضافة الى وديع الصافي ونصري شمس الدين وصباح، بل أيضاً بزياد رحباني ومعه جوزف صقر.
النغم يكسر حاجز اللهجة. فاللحن الممتاز يُدخل إلى وجدانك كلمات لم تكن تعرفها أو تفهمها لو أنك سمعتها في الشارع.
متى تبلغ السياسة أدنى درجات الفن؟! وإذا لم تكن قادرة على الارتقاء إلى منزلته فهل من الضروري أن تشده الى دركها فتفسده حتى لا يفضحها؟!