إلى طلال سلمان
الواقف بين اللحظة والزمن
هذا المقال ليس مرثية لجريدة «السفير» التي رافقت أعمارنا، ولكنه في اليوم الذي يسبق الغروب الأخير، إشارة إلى أن التحوّل هو الحقيقة الوحيدة الدائمة في الحياة.
حين قال ألبير كامو إن: «الصحافي مؤرخ اللحظة» كان يرمي إلى أن الصحافي قادر على الإمساك بالحدث في لحظة حدوثه، وإلى تثبيته بالتدوين المباشر على الصورة التي حدث عليها تماماً، قبل أن تتم إضافة أو حذف عليه من قبل المؤرخين الذين تتلوّن التواريخ بأهوائهم ومصالحهم، أو أهواء ومصالح أصحاب السلطة الحاكمة… لذا قال الدكتور أسد رستم: «الشك رائد المؤرخ»… وألبير كامو كان يفترض حياد مؤرخ اللحظة.. أو إخلاصه للحظة، لينقلها كما هي طازجة وعارية… لا كما يُكيّفها الرواة ويشذّبون منها ويضيفون عليها أو يطمسونها طمساً تاماً ليخترعوا بدائل عنها. فيغدو التاريخ حقلاً لعنز متناطح وتغيب «الحقيقة التاريخية» تحت حوافر المتناطحين.
ولعل تأريخ اللحظة هذه الذي يضطلع به الصحافي دون سواه كالروائي أو الشاعر أو السينمائي. وحتى الحكواتي الشعبي، هو الذي يصون اللحظة من شوائب المخيلة. أقول «شوائب» لأن الحقيقة التاريخية موضوعة تماماً في مواجهة الحقيقة الفنية. فأنت كروائي، كما يقول نجيب محفوظ، معناه أنت ملفّق. لكن أنت كمؤرخ، معناه أنت واقعي حتى الموت. من هنا كانت صعوبة أمين معلوف المتكئ على تواريخ في أن يكون روائياً. كان بحاجة إلى خلطة وتكييف. ولم يسمِّ أعماله رواية باستثناء «سمرقند».
تأريخ اللحظة
تأريخ اللحظة هو الذي جعل الصورة تعمل في خدمة هذه المهمة. ولعله هو الذي مهّد لمن سمّوا فيما بعد بالمدونين، أي أولئك الناشطين بمدوّناتهم اللحظوية أو اليومية على جدرانهم الإلكترونية، بالتقاط التاريخ اليومي للحياة المعاصرة، فإذا كان ممتلئاً بالتظاهرات مثلاً والاحتجاجات أو المواجهات مع السلطة وأدواتها، جاءت هذه المدونات سجلاً حياً وقريباً من سجل الحياة المعاصرة. هكذا كان شأن تدوين شريط التحركات الشعبية في ما سُمّي الربيع العربي منذ العام 2011-2012 حتى اليوم وهو شريط حي ومباشر ولا غنى عنه لمن يؤرخون لهذه التحركات بوقائعها وجمهراتها ومواجهاتها من تونس إلى مصر وليبيا وصولاً لسوريا والعراق وسائر المشرق العربي.
نحن الذين عشنا هذه المرحلة الأخيرة، عشنا كذلك المراحل السابقة عليها… من سبعينيات القرن الفائت، وساهمنا فيها كما اطلعنا على مجرياتها وكتاباتها وصورها بكافة وسائل التواصل الإعلامي. سواء كان ذلك بالإعلام المسموع أو المكتوب أو المرئي. وذلك قبل أن تندلع ثورة التواصل الإلكتروني بمدة طويلة.. وما كان لمثقف أو سياسي أو مواطن، يرغب في أن يعيش في يومه، وبالتالي في مجرى الحياة أو في عصره ما كان له بدّ من أداة المعلومة والرأي والتواصل… المطبوعة اليومية المسمّاة الجريدة أو الصحيفة. دخلت الجريدة في تركيب المزاج الشخصي للإنسان. للكاتب. للمواطن الجالس في المقهى، أو للعاشق المنتظر صديقته وأمامه علبة السجائر والجريدة. أقول في قصيدة «دخان القرى»: «كان صحني مليئاً بأشياء لا أذكر الآن منها سوى شاهدين: دمي والجريدة»، وكان ذلك خلال الحرب الأهلية في لبنان. وكان جاك بريفير قد وصف الجريدة التي أخرجها من معطفه وتفاعل ذلك مع المرأة الجالسة أمامه في قصيدته «مع جريدة».
ولم تكن جريدة «السفير» اللبنانية على امتداد نصف قرن من حياتها سوى قرينة أعمارنا، كما كانت قرينة عمر صاحبها ومنشئها والماشي معها لحظة بلحظة من أول يوم ظهرت فيه للوجود حتى اليوم.. طلال سلمان.. أقول ذلك كقارئ وككاتب بين فترة وفترة في هذه الجريدة. ولم تغِب عني ولم أغب عن صفحاتها غياباً طويلاً فيه شيء من الجفاء إلا قليلاً، وخلال فترات محدودة، كنتُ أشعر فيها أن ثمّة في المشرفين على القسم الثقافي في الجريدة من لا يلائم مزاجهم ما أكتب من قصائد. أسجّل أن معظم «قصائد مهرَّبة إلى حبيبتي اَسيا» (صادر العام 1975 عن «دار الآداب») كان قد نشر في «السفير». وقصيدة «غيم لأحلام الملك المخلوع» نشرت العام 1976 بكاملها على الصفحة الأخيرة. والكثير من سجلي الشعري موجود في هذه الجريدة.. من قصائد أو محاورات حول المجموعات الشعرية الصادرة على التوالي، أو تغطيات نقدية.. حتى أن ستاً من المحاورات حول ست مجموعات شعرية بين 1996 و2015 كان اسكندر حبش قد أجراها معي على التوالي وظهرت في الجريدة، جمعت معاً وصدرت في العام 2016 في كتاب «دم أبيض» (عن «دار الأمير»). ما أقصده هو أن ثمّة جزءاً كبيراً من شخصي الشعري كانت جريدة «السفير» مراَة له. وأن الذين تعاقبوا على رئاسة القسم الثقافي فيها، بالرغم من تنافر مزاج بعضهم الشعري مع مزاجي ـ لم يستطيعوا أن يحفروا إسفيناً ذا شأن بيننا ـ ذلك أن طلال سلمان كان دائماً حراً وديموقراطياً وينطوي على بذرة الشعر الخطيرة. وسجله في هوامشه ينطق بذلك. إذ ربما كتب فيه ما لا يتوافق مع ذائقة الصفحات الثقافية أو بعضها على الأقل. وهو أمر ما كنّا نراه في بعض الأقسام الثقافية لجرائد أخرى. فقد ساد الحجب أو الشطب أو القتل الإعلامي لمن يعتبرونه خصماً شعرياً.. فلا يظهر اسمه لسنوات متطاولة لهذا السبب الذي اختلط فيه المزاج الشخصي مع التعصب السياسي مع الاتجاه الشعري… معاً… لممارسة الحجب الإعلامي. لقد عانى جوزف حرب من ذلك مدة طويلة.
اللحظة السياسية
كانت السفير تؤرخ للحظة السياسية الحدثية وللحظة الشعرية، بخاصة على امتداد تاريخها الطويل. فهي لهذه الناحية كانت مخلصة وصادقة مع هذه اللحظات التاريخية. تجلى ذلك في يوميات الحرب الأهلية في لبنان من العام 1975 حتى العام 1990، وفي زمن التحرير والمقاومة من العام 1995 حتى 2006 وفي زمن مواجهات الربيع العربي من 2011 حتى النهاية المفجعة. لا تغيب عنها اليوميات ولا اللحظات الميدانية. ولا يمكن أن يفهم تاريخنا اللبناني والعربي خلال هذه الفترة فهماً صحيحاً من دون إرشيف هذه الجريدة.. ولكنها في الوقت نفسه، كانت تؤرخ للمراحل. ذلك أن المراحل التاريخية ليست معادلاً ميكانيكياً أو رقمياً للحظات التاريخية. إنه اللحظات واليوميات، مضافاً إليها الخط والرؤية.. وكانت الجريدة تضبط إيقاع اليوميات واللحظات بضوابط المراحل. وهي مراحل تارة قومية وتارة فلسطينية وتارة مقاومة لبنانية. وإلا فما معنى أن «السفير» كانت ولا تزال تضع كل يوم، وعلى جبين كل عدد يصدر من أعدادها جملة من جمال عبد الناصر؟ وما معنى أن ناجي العلي ما زال موجوداً في الأساس وكل مَن يدخل إلى مبنى الجريدة يرى بعض كاريكاتوره على المدخل؟ ولماذا شعرُنا حضنته الجريدة؟ وإن صفحات الرأي تزنر الجريدة ويشترك فيها كتاب متنوعون.. محليون وعرب وأحياناً عالميون ليشكلوا الحاضنة الفكرية للجريدة، كما شكل الشعر حاضنتها الإبداعية، وكاريكاتور ناجي العلي بصمة لا تزول وإشارة ساخرة ومعبرة إلى أن الزمن الفلسطيني لم يحترق تماماً.
لقد دخلت «السفير» سجل تاريخنا الشخصي والوطني والقومي ولا أخالها تخرج منه.
محمد علي شمس الدين