لا يغيب عني كيف كان الأستاذ مصطفى ناصر (المستشار السياسي للرئيس رفيق الحريري) يقود سيارته في شوارع بيروت وكأنه يدفشها دفشا بين الناس وإشارات المرور المعطلة. يسرع ثم يهدّىء سرعته حتى يسرع مرة ثانية. ولا يغيب عني كيف كان يتوقف عن القيادة فجأة عند ظهور صورة الرئيس رفيق الحريري، ليدوس على المكابح بقوة وتتوقف السيارة في منتصف الطريق من دون أن يأبه لمن فتحوا أبواق سياراتهم خلفه. يرفع يديه عن مقود السيارة ويقرأ الفاتحة على روح أبو بهاء. وفي كل مرة كنت اشاركه قراءة الفاتحة، كنت اسأله عن رفيق الإنسان، فكان يجيب “أنا فقدت شيئا كبيرا في حياتي مع غياب رفيق”.
العلاقة بين الرجلين عميقة كما يصفها الأستاذ ناصر. تعود إلى سبعينيات القرن الماضي وفي مدينة الرياض حيث تم أول تعارف بينهما. لم يخف الصحافي المندفع إعجابه من اليوم الأول برفيق الحريري، الذي تبرق عيناه بالذكاء الحاد على حد وصفه. كان يقول “لديه (الحريري) قدرة عجيبة، فما أن تدخل عليه، يستطيع قراءة وجهك ومعرفة ما يدور في رأسك مباشرة”.
في الرياض، يتذكر مصطفى ناصر كيف كان يجمع أبو بهاء الكتّاب والصحافيين ليسمع منهم آخر الأخبار. عادة استمرت معه رئيسا للوزارة. معظم هؤلاء الكتّاب والصحافيين كانوا مستشارين سابقين للرئيسين سليم الحص وتقي الدين الصلح، كفؤاد السنيورة ونهاد المشنوق ومصطفى ناصر وغيرهم. يوما بعد يوم، اتسعت المجموعة لتضم كوكبة من النخب. كان الحريري يقرأ بأذنيه وليس بعينيه، إذ أنه لم يكن لديه وقت لتصفح الكتب، على حد وصف الأستاذ ناصر. وبالتالي كان الحريري الأب يسجل بأذنيه وذاكرته كل شاردة وواردة.
يصح القول إن مصطفى ناصر أحب رفيق الحريري بقدر ما أحبه الأخير وربما أكثر. علاقة توطدت سنة بعد أخرى وحقبة بعد حقبة. ففي خضم الحرب الأهلية، يروي الصحافي مصطفى ناصر كيف كان رجل الأعمال رفيق الحريري يطلب منه المساعدة في الإفراج عن مخطوفين في لبنان، وذلك بحكم علاقة الأستاذ ناصر بالمرجع العلامة السيد محمد حسين فضل الله ومونة الأخير على أحزاب لبنانية فاعلة. في إحدى المرات، “خطف تاجر لبناني يشتغل بالذهب. بعد الإفراج عنه وتوصيله إلى بيتي، أعرته ملابسي ليخرج من منزلي حرا طليقا”، ثم يطلق ناصر ضحكته المجلجلة.
وتستمر العلاقة لتصبح أكثر عمقا بين الصحافي ورجل الأعمال الذي وضع نفسه على سلم السياسة منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وصولا الى اتفاق الطائف في العام 1989. يقول ناصر “وقتها كان أبو بهاء بعد ما صار دولة رئيس”.
كل ما كنت أسمعه وأقرأه هو عن أسطورة رفيق الحريري. الأسطورة التي لم أكن معجبا بها. فكيف لهكذا نموذج في بلد ديمقراطي مثل لبنان، لا منافس ولا شريك له، إلا من خلال الطائفية السياسية؟
أسأل فيجيبني الأستاذ ناصر على طريقته كالعادة: “مرة قلت هذا الكلام لرفيق. قلت له انت يا دولة الرئيس لست فقط التاجر الأكبر والسياسي الأكبر بل الناشر الأكبر كذلك، فانت تنشر ملايين النسخ من المصحف الشريف في مطبعة الملك فهد في المدينة المنورة”.
سألته عن ردة فعل الرئيس الحريري، فبادر الأستاذ ناصر شارحا “رفيق قصة كبيرة، ما بتهزو كلمة أو جملة. يمتص كل شيء. شخصيته فريدة”. لأسأله مصمما “هل يقرأ الحريري بين السطور؟”. مباشرة ومن دون عناء تفكير، يجيب الأستاذ ناصر “طبعا، طبعا، يقرأ بين السطور وفوق السطور وتحت السطور، رفيق قصة كبيرة كإنسان”.
قصص كثيرة يتذكرها الأستاذ ناصر عن رفيق الإنسان. رفيق السياسي. والأهم رفيق الصديق. هذه كلها أبرزها ببراعة في المحكمة الدولية ومن على منبرها في مدينة لاهاي في هولندا. يومها ذهب الأستاذ ناصر بطلب من الادعاء العام للإدلاء بشهادته.
كان تماسك مصطفى ناصر وحضوره في كل التفاصيل والمواضيع جليا بالرغم من رهبة المحكمة. كان واضحا ومتميزا، بشهادة السيدة نازك الحريري حرم الرئيس الشهيد رفيق الحريري. قالت له حرفيا من دارتها الباريسية “انت عملت من رفيق جبل، غيرك عملو بكاء”، في غمز من قناة الرئيس فؤاد السنيورة حين ذكر في إفادته كيف أن الرئيس الحريري بكى في يوم من الأيام على كتفه. لتكمل السيدة نازك قائلة “لو بدو يبكي رفيق… بيبكي على كتفي أنا مش على كتف فؤاد”.
إلتقينا في أحد مقاهي لاهاي من دون حرس أو أمن أو مرافقة. كان يجول بنظره مسترجعا كل ما قاله أمام المحكمة، والناس تمر من حولنا ولا علم لها بأمر جريمة غيرت حياة عائلة ومجتمع وبلد وربما منطقة بأسرها.
في الجلسة نفسها، ذهب الأستاذ ناصر بعيدا في رسم لوحة إنسانية لرفيق الحريري. شعرت وكأنني في المقهى أجلس مع فنان يرسم لوحة بالكلمات وليس بالألوان على طريقة الفنان فان غوغ وفي بلد فان غوغ (هولندا). ثم أخرج سيجاراً ليشعله وينفث الدخان في هواء لاهاي الجميل، الذي يتخلله نهرها ومزارعها الخضراء في كل ناحية.
أكمل ناصر “رفيق الحريري الجبل هو تراكم سنين من عمل وخبرة وتجارب. هذا الجبل عبارة عن مدماك فوق مدماك تأسس في صيدا. صيدا الناصرية والعروبة. فيها رضع الحريري حب الوطن العربي. كيف لا وهو ـ أي الحريري ـ كان يفاخر بأن كتفيه العريضين حملا السلاح للمقاتلين من رفاقه في حركة القوميين العرب. هذا هو المدماك الأول”.
يصمت قليلا. يأخذ مجة من سيجاره ويكمل “المدماك الثاني حين وصل الى مدينة الرياض. دخل هنا الى قصور الملوك. وتعلم فيها عمل الديوان ومرافقه وزواريبه الخفية. ليتقدم على الكل في هذا الديوان المتشعب العلاقات والمصالح. تقدم على جميع العاملين فيه من وزراء ومستشارين وسفراء معتمدين وصحافيين وحتى رجال دين. تقدم لأنه كان يسمع ضجيج الصمت الملكي، لأنه كان يلتقط الإشارة الملكية قبل حدوثها. المدماك الثالث، هو حين وصل رفيق الحريري الى دمشق. فيها تعلم الكثير عن علاقة السياسة بالأمن. وعاصمة الأمويين مدرسة في علوم الأمن السياسي منذ أن انقسم العالم الإسلامي ولربما قبل. تعلم أن لكل ديوان ميدان. والشام هي ميدان الجزيرة العربية. فأصبح منسق العلاقة بين الديوان والميدان العربي”.
يختم الأستاذ مصطفى ناصر بالحديث عن المدماك الرابع، فيقول “في فرنسا وعاصمتها باريس انفتح الباب الغربي على مصراعيه. فدخل رفيق الحريري الى عصب الدول العظمى متعلما علاقة الذهب بالاقتصاد والاقتصاد بالسياسة والسياسة بالقرارات الدولية ومن حولها أصحاب الامتيازات الخاصة كالشركات العابرة للحدود. تعلم متى يحرك الذهب أهل السياسة وكيف يصنع السياسي ذهبا”.
كاتب سعودي