لن أقول نعم في استفتاء على تغيير في نظام الحكم يحجب الحرية عن أولادي وأحفادي وأجيال تأتي من بعدي. كان الرجل يقف في طابور طويل صباح يوم الاستفتاء. لم يقل نعم ومثله تقريبا نصف عدد الذين اشتركوا في الاستفتاء، بما يعني أن نصف شعوب تركيا رفضت أن تعيش في ظل نظام حكم الرجل الفرد والأدهى أن تورثه لأجيال لا ذنب لها. النصف الآخر مع هامش أغلبية لا يتجاوز الإثنين بالمائة صوت بنعم فاستحقت تركيا التغيير. بالتغيير يحق لتركيا اللحاق بقافلة الدول التي اختارت شعوبها بمحض ارادتها التنازل عن حرياتها. اختارت التنازل حين منحت في استفتاء او ما شابه شخصا ما تفويضا مفتوحا وسلطات غير مقيدة. القافلة تطول والدول المرشحة للانضمام تزداد عددا. لم تعد سمعة الاستبداد تقتصر على العرب خاصة وأهل الشرق عامة، منذ أن صارت مطلبا في الغرب بعد أن جملوها وشذبوها لتصير خيارا مفضلا على غيرها من الخيارات.
***
تابعت مسيرة الاستفتاء حتى لحظة إعلان الفوز. شاهدت كيف يبدع عقل الاستبداد في استخدام الديموقراطية للوصول إلى الحكم. رأيت كيف ضحى القائد بالوحدة الوطنية ليحصل على التفويض المناسب. تركيا انقسمت بهذا الاستفتاء أخطر انقسام في حياتها السياسية. لم يترك الزعيم فرصة أو منفذا إلا واستفاد منه، استخدم القانون وحالة الطوارئ لتقييد الصحافة وغيرها من وسائط الاعلام. أقام إعلاما خصصه لنفسه وحكومته وللاستفتاء. فتح المعتقلات لتستقبل عشرات الألوف من الشباب والمحتجين بحجة الانتماء إلى جماعة ارهابية. فصل آلاف القضاة وأكثر من مائة وأربعين ألف موظف حكومة ورجل شرطة ومئات القادة العسكريين، فصلهم قبل عقد الاستفتاء.
أثار زوبعة في علاقات بلاده بالاتحاد الأوروبي. أقام ما يشبه حلقة مراهنات لتشارك فيها الدول الكبرى مثل روسيا وأمريكا ودول الاتحاد الأوروبي ودول الخليج، الرهان كان ولا يزال على الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في سوريا في الحال كما في المستقبل، بمعنى آخر التهديد بسلاح المهاجرين واللاجئين باعتبار تركيا البوابة الأهم للمرور إلى أوروبا. وقف إردوجان بعد اعلان النتيجة مزهوا بانتصاره على من أطلق عليهم برعونة شديدة ومتعمدة “الصليبيين الجدد”. أراد شعبية أوفر بتعميق الفجوة بين بلاده وأوروبا.
لم يقنع بنتيجة الاستفتاء وقد ظهرت بالفعل قاصرة. ظهرت قاصرة إذ كشفت بكل الوضوح الممكن عن أن معظم الأصوات التي حصل عليها إردوجان في هذا الاستفتاء جاءت من الريف بينما جاءت معظم أصوات الرفض من المدن. هنا أيضا كانت صور الحشود معبرة. الآن هو يريد وبسرعة الاستفادة من نتيجة الاستفتاء بإعادة فرض عقوبة الاعدام، هكذا تفقد تركيا نهائيا الأمل في أي علاقة مؤسسية تربطها في المستقبل بالاتحاد الأوروبي. إردوجان مطمئن إلى أن أمريكا والغرب عموما والصين وروسيا غير منشغلة جميعها ولفترة طويلة قادمة بقضايا حقوق الإنسان وقيم الحرية والعدالة. يعلم أن راية الحرب ضد الارهاب التي يحملها تحميه كشخص وتحمي نظامه مهما ارتفع حد استبداده وقمعه. يعلم، ويؤمن بأن كثرة المشكلات الإقليمية بل والدولية وتعقدها هو الفرصة الأمثل لجذب اهتمام العالم الخارجي لشخصه وقمع قوى المعارضة في الداخل.
***
الظاهرة عالمية وليست شرق أوسطية. عرفنا في السابق أنظمة حكم شعبوية بامتياز. جربناها في مصر والعراق وسوريا وتونس وليبيا والجزائر والسودان وجربتها دول كثيرة في أفريقيا. هي نفسها تعود الآن أو تستمر ولكن في أشكال جديدة وتحت مسميات مختلفة. في الماضي لم يخجلوا من الانقلاب العسكري وسيلة للوصول للحكم ومن الحكم العسكري شكلا. كان الفساد سببا كافيا، وفي أحيان أخرى كان الفقر وسوء الأحوال الاجتماعية وكان أيضا العدو الخارجي وكان في أفريقيا بخاصة حماية الوحدة الوطنية. تطورت الأسباب والنتيجة واحدة. صارت مكافحة الارهاب هدفا أول، لم يعد العدو الخارجي في شكل غزو محتمل سببا مقنعا للناس يدفعهم للتنازل عن حرياتهم، إنما حل محله وبخاصة في أوروبا خطر الهجرة الاسلامية الواسعة. وفي معظم الاحوال يستخدم الشعبويون الجدد ذريعة المؤامرة الدولية، من هؤلاء رؤساء روسيا وأمريكا وتركيا وإيران وباكستان وحكومات معظم الدول العربية.
الملفت للنظر أن معظم الحكام الشعبويين متوافقون على كراهية مشتركة وعميقة للثورات، فكرا كان أم ممارسة على أرض الواقع. بوتين يكرهها وكذلك ترامب وبالأكثر فيكتور أوربان حاكم المجر وزملاؤه في شرق أوروبا ووسطها. هم أيضا مع رؤساء أنظمة حكم أخرى في أفريقيا والعالم العربي لا يتحملون وجود مجتمع مدني نشيط وفاعل، وفي الغالب وجدنا أغلبهم لا يحبذ تشجيع أو استخدام المقاومة ضد قوة احتلال. هكذا وجدنا هم من بوتين في موسكو إلى محمود عباس في رام الله.
في حالات كثيرة تولى الحكم شعبويون، أي مستبدون بتفويض شعبي، في أعقاب أزمات اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أوعسكرية عنيفة. جاءوا كرد فعل لحال أو توقع حال انحدار في المكانة سواء كان الانحدار مطلقا أم كان نسبيا، أي بالنسبة لسرعة صعود الآخرين. حدث هذا في أمريكا في إطار أخطر أزمة ممتدة تعيشها الرأسمالية وأشد درجة انحدار في المكانة والقوة النسبية. حدثت كذلك في روسيا في أعقاب ولاية الرئيس يلتسين حين خاب أمل شعوب روسيا في البديل للشيوعية. وهو يحدث الآن في أوروبا حيث يزداد الحنين إلى السيادة الوطنية التي فقدتها الشعوب التي تحمست ذات يوم لمشروع الوحدة الأوروبية.
***
عدت بالذاكرة أبحث في ممارسات سلطويين قدامي وأقارنها بسلطويين أيامنا. هناك فرق بل فروق. كان مصطفى كمال أتاتورك يخاطب جنوده خلال معركة جاليبولي في عام 1915 فيقول “أنا لا آمركم بالقتال، إنما آمركم بالموت”. جوزيف ستالين كانت أهم توجيهاته لجنوده تنص على أن الانسحاب يحتاج إلى شجاعة أكبر من تلك الشجاعة التي يحتاجها ليتقدم نحو خصمه. ففي القتال أمل في الحياة أما الانسحاب فلن يفضي إلا إلى الموت.
سلطويو أيامنا غير مبالين كثيرا بألقاب الزعامة التي اهتم بها مستبدو أيام خلت. موسوليني كان الدوتشي وهتلر الفوهرر وأتاتورك الفاتح وستالين القائد وكذلك الأسد وصدام وعديدون في أفريقيا كانوا يلقبون بالمعلم. لا أحد فيما أذكر بين الحكام الشعبويين المعاصرين اشتهر بلقب أو آخر من هذا النوع. لا أحد منهم يحلم بتغيير الفرد أو يحث على تغيير تقاليد وموروثات. فقط يريدون السلطة خالية من الشوائب ولا يتدخلون في حياة الناس بأكثر مما يفعله إردوغان وأوربان حين يطالبان شعبيهما بزيادة الانجاب وما كان يفعله مبارك وهو يحث بغضب على الاقلال من الانجاب وما يفعله السيسي وهو يحرض الشعب على خفض الاستهلاك والتقليل من عدد الوجبات. أقصاها كما قال صديق أجنبي لا يبعد كثيرا عما كنا نسمعه من آبائنا من نصائح، “لا تصادقوا رفاق السوء ولا تسهروا طويلا خارج البيوت. نحن الآباء نعلم عن الدنيا أكثر مما تعلمون”. كبرنا نحن الأبناء وتقدمنا في العمر والمكانة والمهنة ونبقى في نظرهم صغارا، لا يحق لنا أن نعبر الطريق بدون أن يمسكوا بأيدينا.
مستبدوا زمان كانوا يقرأون ويكتبون في التاريخ والنظرية السياسية وعن فلسفاتهم في الحكم. ستالين كتب عن تاريخ البلاشفة وهتلر كتب كفاحي واتاتورك كتب “نوتوك” وعبد الناصر فلسفة الثورة وماو تسي تونج جمع المقتطفات في كتابه الأحمر. أغلب المعاصرين لم يكتبوا.
***
ثلاثة هم أهم أعداء النظم السلطوية في كل العصور: الصحفيون ورجال القضاء وضباط الاستخبارات. كل التجارب التاريخية تؤكد هذا الأمر حتى في النظم التي اعتمدت طويلا أو كثيرا على أعضاء هذه الأجهزة. كثير من أنظمة الحكم غير الليبرالية استطاعت بل ودأبت على تطوير هذه المؤسسات إلى الشكل والتنظيم والبشر الذي يخدم أغراضها وأهدافها، إلا أنها بقيت دائما دون المستوى المرغوب من الزعيم أو الرئيس الشعبوي. بقيت أيضا مصدر قلق وشكوك. التجربة الروسية الراهنة مثال بارز، المثال الآخر الذي لا يقل أهمية هو التجربة المثيرة التي تعيشها أمريكا في ظل رئاسة دونالد ترامب.
***
تصورت خطأ في مرحلة من مراحل اهتمامي بظاهرة السلطويين الجدد أنهم لا يشتبكون في حروب خارجية، ربما لتقديري أنهم سيمنحون جل اهتمامهم للمسائل الداخلية. كل منهم أعلن أنه يسعى لاستعادة عظمة بلاده ببناء قوتها العسكرية والاقتصادية وتحسين التعليم. اتضح لي في مرحلة أخرى أن عظمة البلاد كما يتخيلونها قد تستدعي التدخل عسكريا في شؤون دول أخرى، وهو بالضبط ما يفعله الرئيسان بوتين وترامب وكلاهما من السلطويين الجدد ويستعد لفعله كيم رئيس كوريا الشمالية وهو سلطوي بالوراثة والتأهيل.
القافلة تسير وفي طريقها تشجع على الانضمام اليها أي حاكم وصل إلى الحكم بالأساليب الديموقراطية ويشاء الآن التخلص من قيودها والتملص من قيمها ومبادئها.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق