قضينا، أنا وكثيرون، الأسابيع الأخيرة نراقب وبعضنا يمارس، جولة حامية الوطيس في لعبة شد الحبل بين وجهتي نظر في الديمقراطية. هذه اللعبة نتداولها عبر القرون. لعبة لا تمل. الفائز فيها غير واثق تماما من اكتمال فوزه والخاسر واثق تماما من عودته للعب مستفزا الفائز ومتحديا. العلاقة وثيقة بين وجهتي النظر في الديمقراطية والثقافة السائدة. قيل كثيرا، وجرى تفنيد أغلبه، عن شعوب لا تصلح لممارسة الديمقراطية، وقد ثبت تاريخيا أن معظم الذين أصدروا هذا القول أو رددوه أو قننوه كانوا بالممارسة والمصلحة والأخلاق أعداء للديمقراطية أو أدركوا مبكرا أنهم لا يصلحون لقيادتها. تؤكد تجارب الحكم منذ فجر السياسة أن إدارة نظام حكم ديمقراطي أصعب جدا من إدارة نظام غير ديمقراطي.
للوهلة الأولى تبدو الحقيقة ضائعة. متحدثون رسميون وإعلاميون في بعض دول الغرب ينكرون أن الديمقراطية في انحسار. يقولون انظروا إلى إفريقيا فهناك تتكاثر حكومات تبنت مبدأ تداول السلطة فيأتي الرد بأنهم عند التداول تراجعوا. يقولون أن حكاما أقاموا طويلا في السلطة بدأوا يتخلون عنها فيخرج من يكمل بأنهم ما تخلوا إلا تحت ضغط شارع عنيد أو عنف مبيت. كلهم يذكرون صعود الموجة الثانية من هبة أو انتفاضة أو ثورة وصفت تارة بالملونة وتارة بالزهور وتارة ثالثة بالربيع، راح الظن إلى أنها كانت موجة وحيدة كاسحة وانكسرت ثم انحسرت مخلفة تشوهات سياسية بلا عدد أو حدود. ثم انحسر الظن. فالموجة الثالثة هي الآن في أوجها وتهدد بالتمدد في اتجاه دولة المغرب. أما الاستقرار فبقي في غالب الأحوال سرابا. في إفريقيا ابتعد مناله وتعززت الشكوك في صدقية الصناديق الانتخابية ويكاد لا يخلو ركن في قارتنا السمراء من تدخلات أجنبية في شكل مرتزقة أو قوات نظامية.
كان المفهوم، أو أقصى المنى في بعض عواصم الغرب، أن مجتمعات ما بعد الشيوعية سوف تتبني أساليب الديمقراطية وتفرضها على حكوماتها. إذا اختارت الرأسمالية فلا بد أن تختار معها الديمقراطية وعندها نكون قد وصلنا إلى نهاية التاريخ. خاب أمل الغرب عندما جاء الانتقال في روسيا عبر فساد بشع وحزب شيوعي هرم، فخرج من أحشاء الدولة العميقة الحريصون على بقاء الدولة واستمرارها وفرضوا نظامهم وإن على حساب الحلم الديمقراطي. وفي الصين، وكان الحزب شابا وطموحا، لم يتأخر قادته عن استخدام أقصى درجة من العنف مع شباب يطالبون بديمقراطية من نوع مختلف. هناك في ساحة تيانانمن بوسط بكين انقضى الأمر.
منشغلون في أكاديميات الغرب بالبحث وراء ظاهرة انحسار الديمقراطية. انشغلوا أولا بالتدقيق في الظاهرة وتحديد ملامحها وحدودها، وعندما تأكدوا من أن الانحسار واقع فعلا ومرشح للتوسع انتقلوا إلى البحث في الأسباب. مدارسهم عديدة وأساليبهم متنوعة وانتماءات أكثرهم وحواراتهم، وبخاصة الأيديولوجية، صريحة ومعلنة. البعض منهم يلقى الآن باللوم على العولمة. تلك المرحلة من عقدي السبعينات والثمانينات التي انطلقت فيها ومعها ومنها ثورات حقيقية في مجالات التكنولوجيا وحرية التجارة والاتصالات وانتقال البشر والتوسع في استخدام العقول غير البشرية في الإنتاج والتوزيع والإعلان والحرب. هؤلاء يزعمون أن هذه المرحلة من العولمة أطلقت شياطين، كان الظن أنها همدت أو تحولت. من هذه الشياطين وربما في صدارتها قضية الهوية بل وأزمات الانتماء بصفة عامة، هذه بطبيعتها والانفعالات المصاحبة لها أثارت أسئلة لم يهتم بإثارتها منظرو المراحل السابقة في التطور السياسي. هذه الأسئلة تموج بها المجتمعات الأكاديمية العربية بخاصة والشرق أوسطية عامة وكذلك الإفريقية. هي نفسها الأسئلة التي تفضل مؤسسات وأجهزة الدولة غير الديمقراطية الغوص فيها. تبتعد عنها الدولة وسلطاتها السياسية والإعلامية خشية أن تنفجر واحدة منها في وجهها.
لا أعذر، ولكني أتفهم. ففي كل حوار شاركت فيه ارتفع صوت ينعي الطبقة الوسطى. هذه الطبقة التي تحملت، أحيانا منفردة، مسؤولية إطلاق الديمقراطية في مجتمعاتها وتوفير الضمانات لها لتستمر وإقامة المؤسسات العصرية وتشكيل النخب اللازمة للحكم والإدارة. هذه الطبقة انكسرت أو أصيبت مرتين على الأقل خلال السنوات الأخيرة كرد فعل لتداعيات الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي في عام 2008. سمعت اقتصاديا كبيرا يؤكد أن هذه الأزمة كانت في ضخامة أزمة 1929 التي تسببت في الكساد العظيم. أكبر خسائرها، حسب رأيه، فقدان الطبقة الوسطي لثقتها في نظامين تبادلت معهما الاعتماد، هما الرأسمالية والديمقراطية.
لا نستطيع أن ننكر حقيقة وضع لا يتكرر كثيرا. تصادف أن شهدت السنوات الأخيرة قفزات في التقدم التكنولوجي دفعت دولا عديدة في الغرب كما في الشرق إلى إعادة النظر في هياكل اقتصاداتهم وأولوياتها. استدعى هذا الجهد البحث عن أساليب في التغيير وإعادة البناء أسرع، لتكتشف أن الأساليب الديمقراطية بطيئة ولن تحقق الإنجاز المطلوب. قرأت لكاتب يبرر عداء دونالد ترامب للديمقراطية أو استهانته بها برغبته العارمة لتغيير علاقات بلاده بدول حليفة ودول منافسة على حد سواء بل وتغيير كثير من سياسات سلفه في البيت الأبيض باراك أوباما. لم يتوقف ترامب عن تنفيذ أهدافه ليراعي قواعد ديمقراطية. المهم بالنسبة لعالم يخصنا أن كثيرا من الحكام قلدوه كارهين أو معجبين وفي النهاية منصرفين كثيرا أو قليلا عن الديمقراطية.
أجيال بعد أجيال عاشت منبهرة بالنموذج الديمقراطي الغربي. درسنا بالاستمتاع الممكن في مدارسنا الثانوية تجارب الغرب في الديمقراطية. تعلمنا في الحركة الوطنية كره الغرب وتعلمنا في المدرسة الإعجاب بديمقراطيته. ونشأنا على حلم الدولة الوطنية المستقلة ومؤسساتها المنقولة عن تجربة وستمنستر. فشل كل من حاول منا، في أمريكا الجنوبية وإفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، نقل التجربة حرفيا. حتى الهند لم تكن لتفلح فيها التجربة الديمقراطية الغربية لولا أن ظروفا محلية جالت دون قيام نظام آخر غير الديمقراطية. فشلنا، وتوقف الكثيرون عن المحاولة عندما اكتشفوا أن الديمقراطية في الغرب لا تصلح لهم، ثم عرفوا أنها مأزومة في الغرب وعاجزة عن تحقيق الاستقرار السياسي وربما أيضا التنمية اللازمة. لم تكن البريكسيت النموذج الوحيد الفاضح على عجز المؤسسة الديمقراطية على الإنجاز في ظروف دقيقة ومعقدة إذ سبقتها أو وجدت معها نماذج أخرى مثل الأداء البريطاني والأمريكي العاجز في العراق وأفغانستان وسوريا وليبيا ومثل ظاهرة السترات الصفراء في فرنسا، ومثل، ولعله الأبرز، الصعود اللافت لأحزاب يمينية متطرفة في عديد من الدول الأوروبية فيما يشبه الإعلان عن قرب نهاية مرحلة في مسيرة الديمقراطية الغربية.
نعلم علم اليقين أن في تاريخنا في العالم النامي ما يثبت أن دولا كثيرة لم تأخذ بالنظام الديمقراطي إلا استجابة لانتداب أو وصاية أممية أو ضغوط من جانب حلف غربي أو آخر. تغير الوضع الدولي. يحدث الآن أن كتلة الغرب الديمقراطي صارت أضعف قدرة على الضغط وحتى لو توفرت لديها القدرة فإن الزمن يعمل لصالح كتلة أوراسية غير ديمقراطية منافسة لكتلة الغرب، وربما يأتي يوم تعلن فيه الصين أو روسيا أو كلتاهما تفضيلها أن تكون الدول الأخرى الساعية لعقد تحالفات معهما منسجمة سياسيا ومؤسسيا مع طبيعة وفلسفة الحكم السائد فيهما.
الأسباب كثيرة وراء انحسار مكانة الديمقراطية الغربية في عالم اليوم. الأسباب كثيرة والحوار مستمر.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق