تعودنا في عالمنا العربي أن تكون الأسئلة في شأن موضوع عام أكثر كثيرا من الاجابات التي نحصل عليها، هذا إن حصلنا على شئ. مع ذلك، ورغم عديد الموضوعات العامة التي شغلت تفكيرنا طوال العقود الأخيرة والتي لم نحصل حتى اليوم على إجابات مرضية على الكثير من أسئلتنا حولها، فإنه يجب الاعتراف بأن الاهتمام بالأزمة حول قطر تخطى الاهتمام بأزمات ساخنة وحروب أهلية وأن الأزمة في ذاتها نجحت في أن تحتل الموقع الأول في قائمة الموضوعات التي ازدحمت أجواؤها بالآسئلة وخلت من إجابات تشفي فضول السائلين وتهدئ من قلقهم.
***
لا ألوم السائلين، وأتفهم جيدا حال ارتباك الرأي العام العربي. أعرف أن بعض العرب تمنوا لو أن الأزمة وقعت في وقت آخر إن كانت لا بد أن تقع، فالنفوس متعبة من كثرة عثراتنا في السنوات الأخيرة والقلوب أنهكها الركض وراء الآمال والألسنة والحلوق جفت من ترديد السؤال بعد السؤال. الناس في كل ركن من أركان العالم العربي تريد أن تحصل على فترة راحة، طلب ليس بكبير على من بيدهم أمر توفير الراحة.
عدنا نجتمع في حلقات أصدقاء نعيد سرد ما سمعنا وقرأنا وكتبنا عسانا نجد إجابات من صنعنا نحن، أهل الكلمة والرأي. أشار واحد منا في آخر حلقة إلى حقيقة أن الأزمة اشتعلت في وقت كانت فيه مشتعلة قضية الجزيرتين في مصر وقضايا التدهور في العلاقات الايرانية العربية وقضايا التهديد الموجه إلى استمرار بقاء دول عربية بعينها. تصادف أيضا أنها، أي أزمة قطر أو ما أسماه بعض معلقي الغرب بأزمة مجلس التعاون الخليجي وهي في الواقع أزمة النظام العربي، اشتعلت عندما كان حزب الله واسرائيل يعبئان قواتهما من أجل صدام تزداد احتمالات وقوعه بمرور كل يوم جديد، وعندما كثر الحديث غامضا في البداية ثم صريحا مع الوقت عن صفقة أخرى من صفقات القرن الحزين، وعندما كان الرئيس إردوجان يستعد بكل الوضوح والصراحة لافتتاح موسم قضم الأراضي من سوريا وغيرها. أنهى صديقنا مداخلته ورجع بكرسيه إلى الخلف موحيا للآخرين بالتعليق أو الإضافة، ولكنه وقبل أن يشرع زميل آخر في الحديث، عاد إلى موقعه ليعتذر بأنه فاته أن يشير إلى صدفة اشتعال أزمة قطر مع اشتعال معارك النهاية مع دولة الخلافة الإسلامية أو ما اصطلحوا على تسميته بداعش. فهمنا أنه تعمد تجاهل حكاية نهاية داعش، بل والارهاب ككل، كمسألة بدت في البداية هامة أو ذات قيمة وساد الظن لبعض الوقت أن كان لها تأثير في اشتعال الأزمة حول قطر. لم يشرح الزميل دوافعه في اهمال الارهاب وداعش.
***
انقسمنا في التحليل والرأي ثلاثة فرق. الفرق الثلاثة متوافقة على مجمل مصادر الأزمة وإن اختلفت على أولوية المصدر أو المصادر الأهم. فريق نعترف بخبرته في فهم تعقيدات الثقافة العربية الاسلامية وطبيعه الحياة في الجزيرة العربية وأشجار العائلات الحاكمة والطبقة الثرية، هذا الفريق زعم أن الخلافات القبلية بتراثها الغائر في عمق مراحل ما قبل الاستقلال وما صنعه الاستعمار الانجليزي وتوسع النفوذ الأمريكي من ذهنية سياسية خليجية فريدة في نوعها، خلفت جميعها علامات واضحة على العمل الجماعي الخليجي كما على العمل القطري، أي عمل كل دولة على حدة. لا يمكن، هكذا ينطلق الفريق الأول في طرح منطقه، الفصل بين ماضي العلاقات بين القبائل الكبرى في شبه الجزيرة العربية وحاضر العلاقات بين دولها المستقلة. لا يمكن أيضا البناء عند التحليل على افتراض أن العقل الحاكم في السياسات الخليجية عقل منبت الصلة بحقيقة عربية أساسية لازمت مختلف مراحل صعود وانحدار النظام الاقليمي العربي، هذه الحقيقة، أو فلنطلق عليها الفرضية الأساسية، هي تلك التي تعتقد أن معظم الحكام العرب في غالبية عهود الحكم اعتبروا أو توهموا أن على كل منهم مسئولية حماية ورعاية كل شعب يعيش على أرض عربية، وأن كلا منهم هو الأدرى من غيره بمصالح هذه الشعوب. لم يتمكن الفريقان الآخران المشتركان في الحلقة التشكيك في هذه الفرضية الأساسية فتاريخنا العربي المعاصر مزدحم بالأمثلة والنزاعات بل والحروب العربية، كالحرب الباردة العربية التي وقعت في الستينيات، التي نشبت وتنشب بسبب هذا الاعتقاد الراسخ لدى هؤلاء الحكام. تاريخنا العربي المعاصر، وحده على الأقل، يؤكد أهمية هذا الفرضية عند البحث في مصادر وأسباب نشوب الآزمة الراهنة حول قطر.
على نفس المنوال، يعرض الفريق فكرة ذائعة في الجزيرة العربية بوجه خاص وفي الشرق الأوسط كله بشكل عام. يزعم، وربما كان على حق في زعمه، أن طبقات عربية حاكمة كثيرة ادعت على مر العصور مسئوليتها عن حماية الدين وقادت حملات التبشير به ومولت هذه الحملات في كافة بلاد العالم، حتى في أوروبا بعد أفريقيا وآسيا. يقول أعضاء الفريق أن الفرد منا يستطيع التشكيك في حق نظام يدير دفة الحكم في بلد عربي ادعاء أهليته وقدرته على التدخل في شئون دولة عربية أخرى ذات سيادة على اقليمها وشعبها، ولكننا لا نستطيع رفض ادعاء دولة اسلامية الحق في نشر وحماية الدين كما يفسره فقهاؤها وحكامها، ونحن هنا، يقول عضو في الفريق، لا نستطيع تجاهل هذه الحقيقة عند بحث مصادر التوتر المتقطع في العلاقات السعودية القطرية بوجه خاص لاشتراكهما في اعتناق ذات المذهب الفقهي والدعوي، وعلاقات السعودية بأقطار أخرى عربية اسلامية واسيوية اسلامية والعلاقات عامة بين شتى الدول الاسلامية، بل وربما بشكل بارز عند التعمق في بحث وضعية مصر الراهنة على ضوء الأزمة الناشبة حول دور الأزهر.
***
كان لفريق ثان رأي آخر. ينتمي هذ الفريق إلى مدرسة توسعت في دراسة ظروف نشأة وتطور النظام الاقليمي العربي. هذا النظام الذي احتضن دولا عربية كانت استعدت للخروج إلى عالم الدول المستقلة. احتضن في الوقت نفسه دولا مستقلة اسما وتابعة فعلا وعملا ولكن واثقة من حقها في أن تقيم تكاملا اقتصاديا وأمنا سياسيا وقوميا مع دول من نوعها وثقافتها وأصولها التاريخية. صعد النظام مع صعود مد ايديولوجي قومي وانحدر مع انحساره. وفي المرحلتين حقق انجازات معتبرة في ظل ظروف بعينها وفشلا وخيما في ظل ظروف أخرى. عدد الفريق الانجازات وظروفها والاخفاقات وظروفها، واختار منها ما ينطبق على المرحلة الراهنة، مرحلة الاخفاق الاعظم وظروفه.
الدلائل كثيرة في مرحلة الاخفاق الأعظم. مرحلة فشل فيها النظام ومؤسسته، أي جامعة الدول العربية، في وقف الانهيار الاقليمي الهائل نحو حرب أو حروب في سوريا وليبيا وحرب أو حروب في اليمن وأشباه حرب في العراق. قيل وقتها إن النظام الاقليمي لم يصمد في وجه قوى الربيع العربي المندفعة نحو تحريك كل راكد . قيل أيضا أن النظام برئ من تهمة النكوص عن مسايرة تيار النهضة إنما انشغال الحكومات العربية جميعها بدون استثناء بحماية “الوضع القائم” في دولها كان وراء اخفاق النظام ومؤسساته. يقال الآن، وربما بحق، أن النظام العربي كان منشغلا من ناحيته بالمرحلة الانتقالية التي كان دخلها قبل حلول الربيع العربي بسنوات. في تلك المرحلة كان واضحا السعي الحثيث من جانب دول عربية كبيرة لاحتلال مكان القيادة في النظام، دول كبيرة ودول صغيرة على حد سواء. كانت الفرصة مناسبة إذ غاب البديل التقليدي كما غاب أي تحالف ممكن أن ينشأ ويتولى القيادة ويتحمل مسئولية مصاعب وتكلفة انتقال النظام من حال إلى حال جديدة تماما. لاحظنا ولاحظ العالم الخارجي بكل الاهتمام والفضول كيف أن دولا صغيرة جدا ولكن غنية جدا وتحوز على شبكة علاقات دولية واسعة اندفعت لتشارك في سباق الصعود إلى مراتب قيادة في النظام، يدفعها خلفيات قبلية وسياسية ومذهبية، ويحثها فراغ القيادة وضعف استعداد الدولة الأخرى الكبيرة وغياب التحالف المستعد لقيادة نظام في مرحلة انتقال.
***
شهدنا محاولات شتى لصنع نظام جديد لتوازن القوى في العالم العربي في ظل ظروف غير عادية. كنا شهودا على محاولة أخيرة فاشلة لصنع تجمع من أعضاء في النظام يقف على هامش النظام العربي. فهمنا أن الهدف من وجوده على هامش النظام العربي، أن يكون في داخله ولكن قريبا من السطح، وفي نفس الوقت يتمدد خارجه، بحيث يبقى مستعدا دائما ومؤهلا لاستقبال دول غير عربية. تكررت المحاولة وكانت تفشل في كل مرة، والسبب يكمن غالبا في عدم توفر كامل شروط القيادة. كانت هناك دائما الدول المتمردة على هذا التوازن أو ذاك، وبعضها صغير ولكن طموح أو طامع في قيادة منفردا أوشراكة. وجد هذا البعض ما يعوض عن الصغر، وجدها في قدرته على تخريب كل مشروع وليد لتوازن القوى في النظام العربي لا يحتل فيه مكانا قياديا أو على الأقل مؤثرا. مرة أخري رأينا من يستند إلى الفائض المالي ينفق منه بسخاء على عمليات التخريب و يعتمد في الوقت نفسه على “فائض التطرف الديني” يجند باسمه ميلشيات ومرتزقة يطلقها على دول بهدف تخريبها في سعيه لمقعد في سفينة القيادة أو المكانة المتنازع عليها. هذا الطرف العربي أو ذاك استخدم التطرف الديني لحشد قوى المجتمع وراء شرعيته وما فاض منه قام بتصديره مثلما فعلت إيران ولعلها ما زالت تفعل.
***
ليست مصادفة أن توجد حالة انتقالية في قيادة النظام الاقليمي مع وجود حالة انتقالية تقريبا في كل دولة عربية على حدة. أيهما أسبق؟ سؤال يستحق إجابة مناسبة. حدث بالفعل أن جاءت فترة كان عدد غير قليل من الدول العربية يواجه مشكلات عدم استقرار داخلي لأسباب متعددة، وكان النظام العربي يواجه عجزا واضحا في القيادة. تفاقم عدم الاستقرار السياسي ومعه تفاقم عجز النظام العربي عن اداء وظائفه في التنمية والأمن والدفاع عن بعض أهم حقوق الانسان. وفي ظل هذا الوضع على المستويين الاقليمي والوطني وقعت ثورة الربيع العربي. وقعت في شكل زلزال وفي قوة زلزال عنيف، هذه القوة التي ما زالت رغم الانكار، والاستكبار، تحتل مخيلة السياسيين في كل أنحاء العالم و تفرض نفسها على سياساتهم.
يهمنا عند تصدينا لأي تحليل نقوم به عن الوضع الراهن في النظام العربي فهم حقيقة ما فعله الزلزال، وبعبارة أدق، ما فعلته ردود فعل الزلزال. ردود الفعل هذه أوجزها الفريق الثالث في الحلقة النقاشية في العناوين التالية: شراسة في السباق على القيادة في النظام العربي ومؤسساته، تصعيد مخيف في أساليب القمع الداخلي في كل الدول العربية، صدع في العلاقات بين دول عربية والغرب بصفة عامة وأمريكا بخاصة لتخليه وتخليها عن حكومات الوضع القائم في أزمتها مع الثورة، عادت هذه العلاقات وتحسنت إلى أفضل الممكن بوصول ترامب مدفوعا بوعود الثروة العربية وأحلامها غير عابئ أو غير فاهم لحقيقة وأهمية ما حدث. من العناوين أيضا، دول صغيرة ولكن واسعة النفوذ تتدخل في أدق الشؤون الداخلية لدول أخرى بعضها في حال ثورية والبعض الآخر محافظ ومقاوم للثورة. تجربة كانت بالنسبة لبعض الدول الصغيرة والمحافظة دبلوماسيا وعسكريا تجربة فريدة لممارسة بعض جوانب القيادة في نظام اقليمي صارت معظم مؤسساته تخضع لنفوذ القوى الاقليمية والدولية المعادية للثورة. رأينا دولا أجنبية عديدة وقد عادت إلى الشرق الأوسط مزودة بكل أدوات الهيمنة تحت أغطية متناقضة الألوان، غطاء حماية الشعوب من حكم الطغاة، وغطاء حماية الحكام من تهورات التمرد والعصيان، وغطاء الدين وجماعاته وميلشياته التكفيرية والجهادية والمرتزقة طمعا في تهذيب الثوار واستيعابهم وتطويعهم. رأينا دولا عربية تمارس ولأول مرة في تاريخها كل هذه الأساليب مجتمعة في وقت واحد.
كذلك كانت بين عناوين ردود الفعل للربيع العربي التي أثرت في الحال الانتقالية للنظام العربي ودول الإقليم التغيرات التالية: “تسريع” مفاوضات التفاهم الأمريكي الإيراني واخراج ايران من عزلتها لتشترك في رسم مستقبل الاقليم، اسرائيل تتجاسر وتعرض خططا وخرائط لمستقبل تتحقق فيه أحلام بني اسرائيل عبر القرون، كانت الفرصة لا تعوض، والمقابل لا يزيد عن الوعد الاسرائيلي افتراضا بردع ايران ان احتاج الأمر. إن صح ما كان يردده جنرالات اسرائيل عن صفقة العمر وليس فقط صفقة القرن.
بين العناوين أيضا التي جرى حولها نقاش السهرة العنوان التالي: إصابة معظم أنظمة الحكم التي لم تتعرض للثورة بشكل مباشر إلى عدوى الحال الانتقالية للنظام العربي، هي الآن غيرت أو تغير في منظومة قيادة الحكم في دولها. أكاد لا أرى دولة عربية لم تغير بعد في قواعد وأشخاص وقوانين الحكم فيها. أكاد، منذ نشوب الربيع العربي، لا أرى دولة عربية لا تعيد ترتيب أسبقيات أجهزتها السيادية وتحاول فك الاشتباك بينها. أكاد لا أرى دولة عربية لم تبدأ بعد رحلة ارتباك في ادارة شؤونها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، أكاد لا أرى دولة عربية، أو بالأحرى شرق أوسطية، لا تعيد النظر في خرائطها وحدودها. أكاد أكون على ثقة من أن أزمة قطر أو الأزمة حول قطر لن تكون الأخيرة في مسلسل الأزمات الناتجة عن الأوضاع الانتقالية التي يمر فيها النظام الاقليمي وتمر فيها أغلب دول الاقليم. الأزمات تلاحقت وسوف تتلاحق طالما استمر السباق نحو مواقع القيادة، ودعونا نعترف أنه في كثير من محطاته كان عنيفا بل ودمويا، وسوف تتلاحق طالما استمر فشل الدول الكبيرة في صنع نظام جديد لتوازن القوى يحفظ أمن واستقرار دول الإقليم.
***
أسئلتنا، كمواطنين عرب، كثيرة. سألنا ونسأل ولا نتلقي إجابات كافية او شافية. ما نتلقاه أحيانا تحت اسم إجابات أغلبه لا يحترم ذكاء السائلين أو لا يلبي حقهم الطبيعي في الحصول على المعلومات والمعرفة. لذلك نجتهد لعلنا باجتهادنا نتوصل إلى اجابات، نصيب فيها أو نخطئ ولكننا على الأقل نكون قد عبرنا بكل الهدوء الممكن عن رأينا و طرحنا أسئلة أعتقد أن من حقنا أن نطرحها.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق