في ذكرى وفاة يوسف سلامة
… وأخيراً وصل “الخبر” الذي كنا نتوقعه بعقلنا وتستبعده عاطفتنا مع وعينا بأنه معلق ما بين طرفة عين وانتباهتها، وبآخر شحنة من المقاومة الباسلة التي واجه بها يوسف سلامة عزرائيل الذي كان يتهدده دائما بزيارة غير مرغوبة!
انكسر القلم الدافئ في “المنفى” الجميل والبعيد والبارد والذي منح ي. س. متعة أن يرى ناسنا وحركتهم والوقائع عن بعد كاف لكي يتوفر الوضوح، ولكي يتوفر التوغل في الوجع بمتعة “المراقب” المحايد، وبشفافية الفنان القادر على محاورة قلبه وهو يقاوم بضراوة ذلك المرض الخبيث الذي كان ينهش الكلمات والابتسامات ومتع الحياة التي تخصص صاحبنا في اعتصارها ثم في توزيع رحيقها كما العرق البيتي على المتذوقين!
آن أن تتوقف اللعبة: فالموت لا يطيق أن تظل تسخر منه وتجهر باستهانتك بقدراته المطلقة. يلتهم الموت الأفكار والملكات والكلمات أيضا، ومعها السناجب والورود والعصافير والجنادب التي تتقافز كالخواطر المثقلة بالهموم اللبنانية التي تصلك ولو كنت في أقصى الأرض.
هذا واحد شرب الحياة حتى الثمالة… وحين اكتمل انتصاره الكبير، نهره على الموت أن تعال فلم يعد أمامي ما أفعله: عرفت الدنيا، قطفت من كل بستان زهرة، تذوقت كل الأطايب، جربت المتع جميعا، لعبت بالمال والنساء والكؤوس، جربت السياسة والاقتصاد، استمتعت بالفن رسما ونحتا وموسيقى وغناء، ثم “تقاعدت” وأنا أروي فأملأ دنياي بالابتسامات بل القهقهات التي لم توفر كبيرا أو خطيرا حتى السرطان.
لعله المال. لعله السأم من عيش افتقد في نظر يوسف سلامة المعنى. العجز أسوأ من الرحيل. ليست الحياة للفرجة، بل لكي تتقحمها فتأخذها بكليتها وتعتصرها كما العنقود طلبا للرحيق الشهي.
في عيد ميلاده الأخير حدثنا ي. س. قال: جميل أن تقرر موعد غيابك في عز الحضور… ووزع علينا كؤوسا وكتبا وحلوى وأملا ثم انصرف بغير وداع.
دع المسافر يواصل رحلته. السويد بعيدة. يوسف قريب، والكلمات طريق الوصول.
الكلمات؟! لقد عاشرها هذا الهاوي فأنجب منها من الكتب المتميزة بقدرتها على نشر الابتسام والمرح، في مواجهة الصعب، ما عجز عن إنجابه كبار المؤلفين والكتاب الذين تحبب كتبهم إليك الأمية.
الكتابة هي أنت. هي ألا تتنكر أو تقلد او تستعير عيني غيرك.
يوسف سلامة كتب ذاته فأمتعنا وأبهجنا وأدخل لغتنا في “مجاهل”، فعاد منها بنتاج مختلف كاختلافه عنا، نحن الذين نجتمع فيه.
السويد بعيدة. يوسف قريب جدا. لا تزعجه، إذن، دعه يواصل إكمال لوحته الأخيرة بهدوء. دعه يطلق نكتته الأخيرة على السرطان الذي قهره قهرا بحب الناس، بحب الحياة، بمتعة الحياة.
“السفير” 28 تشرين الثاني 2000