تعودنا أن نرى الدولة كيانا خارجياً. مجرد سلطة مفروضة علينا من الغير. البورجوازية الكبرى (وربما الوسطى) تراها كذلك. الفساد هو نهب الدولة؛ أشبه بالإغارة على قبيلة مجاورة. وما تجنيه البورجوازية الكبرى مغانم حرب (مغانم سيطرة) ضد الطبقات الدنيا. فهمنا الاستقلال وكأنه مجرد انسلاخ عن دول الاستعمار. ولم نفهمه بمعنى امتلاك الدولة وا دخالها في ضميرنا. بقيت الدولة “هم” ولم تصبح “نحن”. لم تدخل الدولة في وعينا. بقيت مجرد سلطة. وبقيت استبدادية. بالطبع الاستبداد يسحب منها الشرعية. يسحب الشرعية من النظام والمؤسسات، من السلطة لا من الدولة.
لا معنى للدولة إلا أن تكون مدخلة في وعينا وضميرنا؛ أن نكون “نحن” جميعا في إرادة العيش معاً. وأن يكون “هم” خارج حدود الدولة. الدولة هي إرادة العيش سوية داخل هذه الحدود. هي الإطار الناظم للعيش سوية. وهذا ما يحتاج الى قوانين. القوانين يضعها البشر (أو هكذا يُفترض). سيطرة أهل السلطة تحوّل القانون والدستور لصالحهم. نضال الطبقات الشعبية هو من أجل تحويل القوانين لصالحهم. لا تكون القوانين عادلة، ولا يكون الحاكم بموجبها عادلاً، إلا بذلك. الدولة إرادة أبنائها، وحرية أبنائها. تنشأ بالقانون لا بالشريعة ولا بالأعراف. القوانين يضعها المجتمع في سيرورته. يبرمجها عن طريق الدولة. الشريعة تفسيرات عدة للوحي، لكتاب الله المتعدد الأوجه. الأعراف عادات أوجدها المجتمع لحل مشاكله في غياب الدولة (أو في وجودها أحياناً) خاصة عندما تكون معدومة أو متلاشية. القابض على القانون هو الدولة؛ القابض على الشريعة هم الأنبياء وورثة الأنبياء. القابض على الأعراف هو المجتمع. من الطبيعي أن تستوعب الدولة قوانين الدولة والأعراف (وتلغي بعضها) لأن القوانين والأعراف من صنع المجتمع (الناس). أحياناً تصير الأعراف، أو بعضها، هي القوانين. يستفرد أصحاب الشريعة، يميزونها ويعزلونها عن المجتمع. يحتكرونها لأنها عدة الشغل لديهم؛ مصدر رزقهم وسلطتهم.
في كل مرة تحصل ثورة لاسقاط النظام (نظام الاستبداد)، يكون طبيعياً أن تتشكّل لجنة موسعة أو جمعية عامة لوضع دستور. ينبري أصحاب الشريعة ملوحين بقدسية الشريعة وكيفية ادخالها في الدستور والقوانين. يرتبك واضعو الدستور. ينبري العسكر لفك النزاع. غالباً ما يكون العسكر في تحالف مع ورثة الأنبياء، إن كان في الاخوان المسلمين أو مع السلفية. مهمة ورثة الأنبياء تكون إعاقة الحكم المدني. يصب ذلك في مصلحة العسكر. يظهر بوضوح التحالف الموضوعي بين ورثة الأنبياء والعسكرة. لكن الذي لا يظهر غالباً هو أن ورثة الأنبياء يعملون عند العسكر. في أجهزتهم. وبتوجيه منهم. تكون النتيجة في جميع الحالات استفراد العسكر بالمجتمع بعد الثورة:مصادرة الثورة. لم يعد العسكر قوة ثورية منذ الاستقلال الوطني. سيطروا على السلطة ويفعلون كل ما من شأنه أن يسهل لهم هذه المهمة. الدين النفطي (السلفية) جاهز للمساعدة. أموال النفط متوفرة.
ورث الطغاة دور الملوك بالنسبة للقانون. كذلك ورث العلماء “ورثة الأنبياء” دور الكنيسة الكاثوليكية. ساد الاستبداد بعد الاستقلال عن الدول الأوروبية التي كانت تتقدم على طريق الديمقراطية. لم يكن ذلك صدفة. كان على الدول الأوروبية بعد أن ضعفت وبدأت بالخروج من البلدان المستعمرة أن تبقي على سيطرتها بوسائل أخرى: حكومات عسكرية تأتي عقب انتخابات. أو طغاة يأتون عقب انتخابات ديمقراطية، أو طغاة بأتون بعد انقلابات عسكرية ثم يجرون انتخابات مقررة سلفاً. كان على الدول المستقلة حديثاً أن تقلد أسيادها السابقين ولو ظاهرياً. نمط الإنتاج السائد بعد الاستقلال كان يحتم تبعية الغرب بشكل أو بآخر. في حقيقة الأمر، كان الطغاة الجدد في بلادنا يقلدون ملوك النظام القديم في أوروبا لما قبل الثورة الفرنسية، في اعتبارهم أنفسهم مصدر القانون ولو بشكل غير ظاهر. بالطبع زاحمهم على ذلك ورثة الأنبياء. هؤلاء اعتمدوا على مقولة أن القانون يجب أن يستند الى الشريعة ذات المصدر الإلهي الي لا يمثله أو لا ينوب عنه إلا ورثة الأنبياء.
الصراع في مرحلة التحرر الوطني، بعد الحرب العالمية الثانية، كان حول من يصدر القانون ومن يقبض عليه. كان الصراع على السلطة هو صراع على القانون. أعطى الطغاة أنفسهم صلاحيات فوق القانون بفضل القوة العسكرية التي تدعمهم. كانوا يسعون لأن تتستّر عشوائية الاستبداد بالثوب القانوني. بقوا يحكمون بإرادتهم العشوائية. يستخدمون القانون أو تعليق تطبيق القانون بإعلان حالة الطوارئ أو ما يسمى الأحكام العرفية. صار العرف أيضاً في قبضتهم. بقيت دولنا طوال هذه الفترة، عشرات السنين، رازحة تحت حالة طوارئ لا داعي لها.
من يضع القانون يحكم، أو من يحكم يضع القانون والدستور. خلال المرحلة الليبرالية القصيرة التي مرت بها هذه البلاد، سادت تشكيلة اجتماعية كانت السلطة فيها للبورجوازية التجارية والصناعية وكبار ملاكي الأرض. كان هؤلاء يحكمون من خلال برلمانات منتخبة من الشعب وباسم الشعب ومن أجل الشعب. كان الناس ينتخبون ممثليهم للبرلمان. وكان هؤلاء يمثلون طبقتهم العليا لا الشعب. لكنهم كانوا يضعون القوانين باسم الشعب. كان لدى الشعب وهم جميل أنه هو الذي يحكم ويضع القوانين عن طريق “ممثليهم” في البرلمان. بالطبع، ألغى طغاة الاستبداد هذا الوهم الجميل.
يُختصر مطلب الحرية بإبداء الرأي وحرية المعتقد (بالطبع لا يشمل حرية اللا معتقد). ويسمى أحيانا مطلب الحريات العامة. الحرية الأساسية هي حرية الشعب في وضع القانون؛ يكون ذلك عن طريق البرلمان. الاعتراف بالشعب مصدراً للقوانين كان أساسياً في الانتقال نحو الديمقراطية. هي حرية الناس في أن بفكروا حسب قوانين كي يؤخذ ذلك في وضع القوانين.
يتحوّل القانون الى مجال للحرية. ليس بمجرد اختيار قضاة نزهاء، بل بمقدار ما يساهم عامة الناس في وضع القانون الذي يصلهم مباشرة بالدولة. القوانين في بلدان رأسمالية وضعها بورجوازيون يحمون طبقتهم على حساب غالبية الناس. عندما يشارك الناس في الدولة، يصيرون مواطنين. تنغرز الدولة في وعيهم وعقولهم وضمائرهم. ويصير تطبيق القانون تلقائياً. الشخص الذي يرتكب في بلادنا المخالفات القانونية، تراه عندما يسافر الى بلد غربي يطبق القانون تلقائياً لأنه أصبح شبه مواطن هناك. هو لم يتغيّر إلا بمقدار تغيّر المكان من حيث لا مواطنية الى مكان آخر حيث المواطنية هي الأساس، وتطبيق القانون تلقائي، فيتشبّه بهم. من عاشر القوم أربعين يوماً صار منهم. الحقيقة أنه حين تطأ قدماه أرض الغربة يصير وكأنه منهم.
نعود الى مسألة القانون في بلادنا. يخالف الناس القانون كلما أتيح لهم لأنهم لا يشعرون أن الدولة منهم ولهم. لا يشعرون أن هذه اليوتيوبيا تخصهم. من الصعب تخيل قوانين موضوعة للناس في بلد تحكمه رأسمالية، والأصعب تخيل طبقة بورجوازية تضع قوانين تعرف أنها لمصلحة العامة. مطلب القوانين العادلة، أي التي توضع لمصلحة الناس، يستحق النضال من أجله. النضال ضد البورجوازية هو نضال ضد قوانينها.
المشكلة هي أن القانون يجب أن يطبق الى أن يأتي غيره ويكون أفضل منه. الانتماء للدولة يحتم تطبيق حتى الجائر من القوانين (قانون الضرائب مثلاً) ويحتم في نفس الوقت العمل لتغيير القوانين.
يقودنا هذا الى مناقشة تعبير التغيير. الثورة تعني تغيير القوانين، بالأحرى الدستور، دفعة واحدة. ما دمنا نعيش في بلد رأسمالي يتوجب علينا اعتماد مبدأ التراكم، النضال من أجل تراكم القوانين التي تكون لمصلحة الناس. الثورة تعني كل شيء أو لا شيء. النضال المطلبي يعني تراكم الانجازات مهما كانت صغرى. المهم أن يبقى نصب أعيننا أن مطلبنا الأساسي هو التعيير: التغيير الفجائي بمعنى الثورة، والتغيير التدريجي بمعنى التراكم. والمهم أضاً أن الثورة ليست مؤنث ثور. ليس بالمناطحة تصنع الثورات. هي تصنع نفسها. وعندما يكون الوعي مهيّأ لها، تستطيع الطبقات الدنيا الاستفادة منها في نضالها الذي يبدو أبدياً، نظراً لشراسة الطبقات العليا في سعيها الدائم لفرض نفسها.
يكون القانون مصدراً للحرية عندما يكون مصدرها الناس، وعندما تكون الدولة منغرزة في ضمير الناس، وعندما يكون النظام أداة تنفيذية للدولة. أداة تنفيذية لمشيئة الناس.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق