لسنا أحراراً. ليس لأن الاستبداد يحكمنا. وهذا صحيح. نفتقد الى الحرية من الداخل، في داخلنا وفي داخل نفوسنا. نفتقد الى الدافع الداخلي الذي يجعلنا أحرارا. نفتقد الى ما يشكل الحرية في داخلنا حتى ولو ما كان النظام استبدادياً. هناك قيود في داخل النفس، تمنعنا من الخروج الى العالم، بالأحرى تمنعنا من الخروج من القفص الذي تقوقعنا فيه. الدين ضروري. هو فطرة في كل مجتمع، كما عندنا. الثقافة ذاكرة المجتمع الذي لا استمرارية دونها. لكن الدين والثقافة يبدوان مثل ثوب حديدي نلبسه. لا نستطيع أن نتحرك في إطاره. نحن شبه مقعدين.
ثورة 2010 ـ 2011 كانت تطوراً عظيماً. صار العسكر بعدها أشد ضراوة. وصار الدين السياسي أشد ضرواة ومرونة. الدين المتطرّف آفة. الدين المعتدل ليس أقل منه تطرفا في الإصرار على أن الطريق الوحيد هو الشريعة. لا نعلم ما هي الشريعة (التي يقصدونها). نعلم أن العسكر يسيطرون على ما يقارب نصف الاقتصاد في بعض البلدان. الدين السياسي ليس هدفه الاقتصاد. يكتفي بالتلاعب به. اقتصادنا العربي بشكل عام نما في القرن العشرين بوتائر أقل من وتائر النمو في القرن التاسع عشر. لا تنهض المجتمعات بغير الاقتصاد. الاقتصاد هو عمل وسعي وإنتاج. لا ننتج الكثير. المجتمع ذو المزاج الديني لا يهمه الاقتصاد (أمور الدنيا) بقدر ما يهمه إرضاء السماء. عقلنا (وعينا) لا يعالج مشاكلنا. الغائب الأساسي هو الدولة. في كل بلداننا الدولة كيان غير شرعي. لا تقود المجتمع. وكيف تقود الذين لا يعترفون بشرعيتها. سحبنا الشرعية من كل دولة عربية. استمر النهوض في بلدان أخرى، أسيوية وغير أسيوية، رغم وجود الاستبداد؛ وهذا ما لم يحدث عندنا. ما زلنا في الدرك الأسفل. بالمناسبة، حصل النهوض في بلدان تخضع للامبريالية. لا بدّ من أن هناك مؤامرة أو مؤامرات. كل ذلك لا يفسر ما نحن فيه.
نجد أنفسنا كتلة من البشر. مجتمعات لا حول لها ولا قوة. أقعدها الاستبداد وأموال النفط عن العمل. فكأنها بلا اتجاه وبلا هدف. لا تريد من الدنيا إلا الخلاص. بما في ذلك الخلاص من الدنيا، مع اعتقاد راسخ بأن االحياة في الآخرة أفضل من الحياة في الدنيا. لكي لا نتجنى على الشعوب العربية، يمكن القول أن من يقودها يرغب أن تكون هذه حالتها. وهي على الرغم من الثورة السياسية التي تقوم بها لإسقاط الأنظمة، إلا أنها تتراجع على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والايديولوجي. لن يكون النهوض السياسي مستداماً ما لم يتزامن مع نهوض اقتصادي واجتماعي. ربما كان أن الواحد منهما يقود الى الآخر، وما علينا إلا الصبر. ربما النصر صبر ساعة.
أنظمتنا التعليمية قضت على السؤال. أنظمتنا السياسية قضت على الحوافز. غارت الثقافة الموروثة في أعماق النفوس. لم يعد مهماً منها إلا ما يتعلّق بالسماء. بقي الشغف السياسي يتحرّك، وباستمرار. تواجهه الثورة المضادة. لكن الحرية الداخلية، داخل النفس، والتي تقضي بالتمرّد على أنفسنا، لم تتولد بعد. المترجمون عندنا لا يصلحون للترجمة. ليست عندهم المصطلحات التي تتناسب مع ما ينتج العالم من كتب وأفكار تعبر عنها مصطلحات جديدة. وكأنها لغة لم تعد تصلح لهذا العصر. هي لغة ربما كانت من أغنى اللغات وأطوعها للاشتقاقات، لكن استعمالها لدى مثقفين فقراء الحال في معرفة اللغة والثقافة العالمية هو ما يشكل عبئاً على هذه اللغة. كارثة محقة عندما يكون الناطقون والكاتبون بلغة ما عبئاً عليها. المشكلة ليست في اللغة، بل في الثقافة الحاملة لهذه اللغة، وفي المثقفين الحاملين لهذه الثقافة. يحصل هذا عندما تكون روح التمرّد على الثقافة مفقودة. ثقافة الخلاص هي السائدة. الخلاص من هذه الدنيا والنجاة في الآخرة. أنتم أعلم بشؤون دنياكم، كما جاء في الحديث الشريف. معناه أنكم يجب أن تكونوا أعلم بشؤون عالمكم الذي تعيشون فيه. نعيش في عالم لا نعتبر أنفسنا منه. نخشى العالم، وكأن تاريخنا وثقافتنا الموروثة وديننا الموروث في خطر. نخاف أن يضيع ما في أيدينا، وما في أيدينا ليس إلا السراب والأوهام، والكسل وما يجر إليه من تراجع وفقر وعوز. الفريضة الغائبة هي التمرّد. التمرد على أنفسنا أولاً، لكي نصير مستحقين للتمرد على العالم. لا نستطيع التمرّد على العالم إلا بالخروج إليه والانخراط فيه والاندماج في ثقافته.
التمرّد الخارجي ظهر في ثورة 2010 ـ 2011. ما ينقصنا هو التمرّد الداخلي. الخطاب مع الذات. لن يكون هذا الخطاب مع الذات مجدياً إلا إذا كان نقدياً، مشغولاً بما لا نعرف، صديقاً للمجهول، باحثاً عما يمكن معرفته، متجاوزاً لما نعرفه، خارجاً من الموروث، خارجاً على الموروث. حولنا الدين الي السياسة لأننا لم نملك الوعي والمعرفة لنحوّل الثقافة الى السياسة، انتهينا الى أن تكون السياسة مجرد صراع على السلطة، والسلطة مجرد تكالب على فتات المائدة، وعلى ما يرميه إلينا الغرب من الفضلات بعد أن يولم على ثرواتنا. الثروة الحقيقة هي الكامن فينا وفي نفوسنا وأرواحنا من التمرّد الثقافي.
نزعم التمسك بالهوية، نقبض عليها، نخاف إذا أفلتت أن تتلاشى. الهوية لا تبدع. لا تخلق شيئاً. لا تشكل مجتمعاً جديداً قادراً فاعلاً. ليست الهوية الكاملة إلا الهزيمة الكاملة. عندما نصعد الى السماء سوف يكون الحساب عسيراً. سوف نُسأل: ماذا فعلتم؟ ماذا أنجزتم؟ كيف تركتم دنياكم؟ سيكون الجواب عسيراً علينا: بئس المصير. لن يكون الثواب إلا لمن تمرد، لمن عصى على هذا النظام العالمي والإقليمي الجائر. لا طاعة في معصية. معنى ذلك ليس فقط التمرّد على الطاغية بل التمرّد الحقيقي على التراث والثقافة الموروثة، وعلى أنفسنا. نترك أنفسنا خاوية عاجزة. فكيف نثاب عليها؟
الحرية حرب دائمة مع الذات. تحرير الذات من نفسها. لكي تقاتل الذات نفسها، يجب أن تعتقد أنها على غير حق. يستحيل على الحق أن يؤسس دولة أو مجتمعاً إلا إذا استعار ذلك مما يجاوره، أو يبعد عنه، بحسب المسافة الزمنية والفضائية والروحية. يستحيل على الحق إلا أن يكون مطلقاً. والمطلق لا يمكن أن يشكّل مجتمعاً أو دولة. المطلق مسألة تتعلّق بالله، والله لم يكن مرة واحدة في التاريخ دولة أو مجتمعاً. هناك ما يسمى دولة الله، أو مجتمع الله، ويزعمون النطق باسمه، لكن لم يتحدثوا عما يُعتبر في هذا العصر “سياسة”؛ وهل كان الرسول إلا فائض القدرة في السياسة.
تستدعي الحرية إلغاء كل مرجعية وكل تقليد، إلا ما يتعلّق بحكم العقل والأحكام الفردية. تستدعي الحرية التحرر من حكم الجماعة ومن تسلّط المجتمع، وما يُسمى التراث. طبيعي أن يكون الفرد ابن مجتمعه. لكن المطلوب أن يتمرّد على ذلك كله. وعلى ذلك تتعلّق حريته. الحرية أن ينتمي الى مجتمعه وأن لا يصدقه في نفس الوقت. أن يكون الشك والسؤال جزءاً أساسياً من تعاطيه مع مجتمعه. الفرد ليس مواطناً في فراغ. هو جزء من مجتمع وُلدَ فيه، وربما انتمى إليه. الحرية هي التمرّد على هذا المجتمع رغم الانتماء. الحرب داخل النفس هو حديث الذات الى الذات، هو عذاب الانتماء والانسلاخ في وقت واحد. لا يخرج الفرد من مجتمعه إلا عندما يخرج منه وإليه وعليه. يؤكد ذاته الفردية وحسب. ولا تتأكد الذات الفردية وهي مثقلة بالذاكرة والتاريخ والثقافة الموروثة. ذلك كله لإنشاء وعي جديد وثقافة جديدة. من المستحيل أن تكون هذه منبتة الأصول. الأصول فيها ثانوية. الأصل الحقيقي ذو الأولوية هو التطوّر نحو المجهول. البدع والخلق والابتداع هم الأصول الجديدة. لا يحدث ذلك دون تدمير التراث والمرجعيات القديمة. متى يحصل ذلك يكون الناس متمتعين بالحرية حتى في ظل سلطة استبدادية. لا ينتصر الاستبداد إلا في مجتمع منغلق على نفسه، معزول عن العالم، مستسلم الى ماضيه، ويؤمن بأوهام الماضي، جاعلاً إياها أولوية على معطيات التاريخ التطوري. التاريخ يتطوّر بنا وبدوننا. بنا تسيطر الإرادة في صنع التاريخ. بدوننا نستسلم للماضي. يصنع التاريخ غيرنا. التمرّد هو إرادتنا في صنع التاريخ.
الأخطار الداهمة متعددة وخطيرة. صحار تتوسّع؛ أرض زراعية تضمر. همة على العمل تتلاشى. تعليم ينهار. أنهار كبرى تجف. جيران طامعون بمواردنا. اثنيات تعمل على الانفصال. دول تنهار. شرعيات زالت وما تزال تزول. وعي يتخثّر. عقل يتجمّد. جيوش أشبه بالميليشيات. حكام بلطجية. مثقفون يُباعون ويشترون، كأنهم في سوق نخاسة. والقائمة طويلة. أمة يتواطأ عليها الجميع. فكأننا ما زلنا في عصر الاستعمار دون أن ندري ما هي الامبريالية. الأهم أن الأمة تتواطأ على نفسها. المؤامرات الخارجية أمر طبيعي في كل أنحاء العالم، وعلى كل دول العالم. ما هو غير طبيعي أن تتآمر الأمة على نفسها. وعيها يتآمر عليها. عندما تكون الثقافة السائدة (الوعي السائد) غير معنية بمشاكل الأمة ولا بايجاد الحلول لها ولا بالاتزام بهذه الحلول، إن وجدت، فإن في الأمر تواطؤاً داخل الذات العربية. التواطؤ ناجم عن القيود الداخلية النفسية التي تقيّد عقل الأمة ووعيها. ما يُسمى الرأي العام لم يعد موجوداً بعد أن كان موجوداً وفاعلاً في الوطن العربي وفي العالم. نحن مهمشون لأننا عزلنا أنفسنا عن العالم وتحولنا الى الخلاص في الآخرة بعد أن فقدنا الاعتقاد بأن التحرر يبدأ على الأرض. حريتنا في الأرض تعني حريتنا في السماء. الله يخلق الإنسان على صورته. هل يخلقه كي يكون مهزوما؟ أم أن الانسان يخلق الله على صورته، فهل يُراد أن يكون الله مهزوماً؟ الأفضل أن نقر أن العلاقة بين الله والإنسان منقطعة وأن الله لا علاقة له بما يجري على الأرض. كفى اتهاماً لله. كفى تبرئة لأنفسنا من الملامة. البحث عن الأسباب لا يكون إلا في داخل الذات.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق