في زاوية متواضعة من صفحة داخلية مثقلة بأخبار الحكّام وصور حروبهم، كان يتربص بنا في كمينه المموّه بمباذل خصومه خصومنا.
الإسم أبيض فوق شريطة سوداء،
لا صورة، لا إطار، لا مكان بارزù في رأس الصفحة.
كأن الباهي محمد قد تدخل شخصيù لطمس خبر موته.
الباهي يموت؟!
لو قالها أحد، شفاهة، لضحك السامعون،
فهذا الذي يحمل فوق وجهه ملامح بدء الخليقة، قادر أن يقنعك بعد أن تعرفه بأنه باق بعد الموت، وأن تعاقده مع الدنيا يتجاوز أعراض الحياة والموت.
الباهي محمد،
ورد الصبار الصحراوي،
أرز الأوراس،
»المرابط« المكلّف نفسه إعادة الاعتبار إلى عقبة بن نافع وموسى بن نصير وطارق بن زياد،
الأموي الأندلسي »العائد« ليسائل الذين خذلوا أحفاد عبد الرحمن الداخل فتركوهم يأخذون عنهم خطاياهم وأخطاءهم ويضيعون هناك مثل الذين من قبلهم هنا،
»الفاطمي« الآتي مجددù من المغرب الأقصى لينقذ بر الشام وأولى القبلتين وثالث الحرمين، من التتار والصليبيين، لكي يستطيع إكمال رحلته إلى حج بيت ا” الحرام،
… والعائد من رحلته إلى الشرق بشامه، قلب العروبة النابض، وبغداد أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد، براية البعث وسيف الوحدة وقد ضخ المناضلون الدم في شرايين حلمهم القديم فجددوه،
هذا الشريد الطريد الذي خرق الحدود جميعù وضحك على الأنظمة وأباطرتها جميعù وهو يكتب في »صحفها« مستعينù بثقافته التي لا يدركها رقباؤها،
هذا الصعلوك الفارس،
هذا الذي يختزن ديوان الشعر العربي والقرآن الكريم ونهج البلاغة وتاج العروس ولسان العرب وتاريخ الطبري ومقدمة ابن خلدون،
هذا الذي قرأ في الثقافة وفي الأدب، رواية وشعرù ومسرحù واجتماعيات، ما لم تقرأه إلا قلة من الفرنسيين،
هذا »الباهي« الآتي من الصحراء الغربية إلى باريس ليكتب عنها بعض أجمل القصائد فيها،
هذا الحامل مغربه في قلبه، بصحرائه والمحيط، بالأرض التي ما تزال تحتلها إسبانيا، وبالظلم الذي ما يزال ينزل بشعبه،
هذا المقاتل في الجزائر مع ثوارها والمسجون فيها، من بعد، مع ثوارها، وعلى يد ثوارها،
هذا المطارد في بغداد، وفي دمشق، والمسجون فيهما عندما الحزب الواحد صار أحزابù، والمطرود إلى ليبيا ومنها، وإلى تونس ومنها، وأخيرù: المطرود من فرنسا.
هذا العائد إلى المغرب، أخيرù، متخليù عن تاريخه لكي تعرف ابنتاه أن لهما وطنù، وأن لهما حقù فيه، والذي فقد فيه، فور وصوله، إحدى الابنتين ونصف العمر ومعظم الرجاء.
الباهي محمد يضحك الآن ساخرù من هذه الكلمات،
الباهي محمد الذي أعطى ما يملك للجميع من دون حساب، مات غريبù، لا يعرفه أحد في المستشفى الذي أدخل إليه مريضù.
ليست هي نهاية الرحلة التي استطالت على قصر زمانها حتى غطت حالة النهوض العظيمة وقاومت الانتكاس بشراسة إلى أن اكتملت الهزيمة »بالزيارة« ثم اتفاقات الإذعان وسقوط القلعة الفلسطينية.
إنه يخادعنا، هذا الباهي محمد،
لعله سجين الآن في بعض أرجاء الوطن،
لعله يحاول التسلل إلى الغد بعيدù عن الرقباء،
لعله في المدينة المجاورة، في الحي المجاور، في البناية المجاورة، في الشقة المجاورة، في الغرفة المجاورة، في الصفحة المجاورة، في السطر المجاور، في الكلمة المجاورة،
إنه في مكان ما، هنا،
إنه في كل الأمكنة،
كان فيها وسيبقى فيها لأنه، من قبل، قد هزم الموت ألف مرة واستطاع النجاة.
أو لعله تقدمنا… كعادته، ليكون، كما كان دائمù الحادي والدليل.
إلى اللقاء أيها البدوي الذي رفعته ثقافته ونضالاته وإخلاصه وتضحياته وضياعه وشهامته إلى معارج الصديقين،
وقبل الافتراق، أصدقنا القول: هل تركتنا حقù؟!
إن كان ذلك صحيحù فعذرù للغياب وللتقصير.
طلال سلمان
} تنعي »السفير« إلى قرائها في أرجاء الوطن العربي الكاتب والصحافي المغربي الكبير الباهي محمد.
و»السفير« التي اعتبرت الباهي محمد من أسرتها، تمامù كما اعتبر نفسه، منذ صدورها في العام 1974، والتي كتب فيها الكثير من أعماله الصحافية وبعض أعماله الأدبية وتأملاته والعديد من طروحاته السياسية، تقدم خالص العزاء إلى أسرته الصغيرة وإلى أهله الكثيرين في المغرب كما في المشرق العربي.
لقد خسرت »السفير« كما خسرت حركة التقدم نحو المستقبل العربي قلمù سيفù ومثقفù مفتوح البصيرة على الغد.