لا يختلف إثنان حول أهمية الكهرباء في بناء اقتصاد حديث؛ في الصناعة، والزراعة، والنقل، والخدمات، الخ… كذلك حول أن تكون للدولة سياسة حازمة لكهرباء البلد، سيّان في ذلك أن يكون عن طريق القطاع الخاص أو القطاع العام. في الحالتين يتطلّب الأمر وجود إدارة حكومية صاحبة قرار تستطيع التخطيط له وتنفيذه، بالأحرى فرضه.
تعوّد لبنان أن تكون الكهرباء قطاعاً عاماً منذ إستقلاله عن فرنسا في الأربعينيات الماضية، وقبل ذلك، بعد إعطاء امتيازات لشركات خاصة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أي في أيام العثمانيين. يحتاج القطاع الخاص، كما القطاع العام الى ضبط، وهذا لا يتأتى عادة إلا عن طريق دولة ذات قرار.
شبكة التوزيع سواء عالية التوتر، أو متوسطته، أو التوتر المتدني، تربط مناطق البلد بشكل أو بآخر، وهي يمكن أن تكون قاعدة للربط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والمساواة في تزويد الكهرباء سواء للمؤسسات اللبنانية الكبيرة أو للمنازل، لكلّ حسب حاجاته، يُمكن أن تشكّل نقيضاً للتمييز الطائفي والزبائني. وقد حدث أن وصلت الكهرباء للمستهلكين في العام 1997 على مدار الساعة والأسبوع والسنة. كان ذلك بعد بناء معملين، أحدهما في الزهراني والآخر في البداوي (دير عمار) بقدرة 450 ميغاوات لكل منهما، مع الأخذ بالاعتبار، في التصميم الأساسي، إمكانية توسعة كل من المعملين لمضاعفة الإنتاج بقدرة 450 ميغاوات إضافية لكل منهما؛ وأرض كل منهما واسعة بما فيه الكفاية لتركيب الماكينة، أو الماكينات الإضافية، من دون أي حاجة الى عملية الاستملاك الطويلة.
المستغرب، بل المستهجن أولاً، أن التوسعة لم تحدث، برغم أن، أو بسبب أن وزارة الطاقة كانت بيد فريق ميشال عون – حزب الله طوال السنوات الماضية، منذ 2005 على الأقل. ثانياً، كأن أزمة الكهرباء مفتعلة أو مقصودة، كما هي أزمة مصادرة ودائع الناس، بالأحرى سرقتها؛ وكأن الأزمات الأخرى هي أيضاً مفتعلة لإفقار الناس وتدجينهم بعد إجبارهم على الوقوف في طوابير الذل طلباً للرغيف أو الوقود أو أي مادة ضرورية أخرى للبقاء على قيد الحياة.
يصر بعض القادة، ومنهم وزراء الطاقة المتعاقبين، على رفض توسعة معملي الزهراني والبداوي (دير عمار) والإصرار على معمل إضافي في منطقة سلعاتا، قرب البترون. والأمر يحتاج الى عملية استملاكات طويلة وتجهيزات للربط بالشبكة، مما يمكن أن يحتاج الى تمويل كبير إضافي لجعل الأمر ملائماً من الناحية التقنية، أي تركيب محطة تحويل غير ملحوظة أيضاً في المخطط التوجيهي.
المفجع إضافة لذلك هو رفض أهل “الحل والعقد” من أهل السلطة وأحزابها عروضاً من بلدان أوروبية، عندما كان مسؤولون كبار فيها يزورون لبنان في زيارات رسمية لتوسعة المعملين المذكورين من دون مبرر تقني أو اقتصادي، إلا إذا كان في الأمر هدف سياسي نجهله، لكننا لا نستطيع إلا أن نستدل على أنه خبيث ويضمر الشر للشعب اللبناني، بما يلبي تطلعات ورغبات طائفية تفوق فيها اعتبارات الفساد على الاستقامة. ولعل الفساد الأكبر هو الحؤول دون ما يفيد الناس، والإحالة الى ما لا يفيدهم.
ما لا يفيد الناس هو أن أزمة الكهرباء امتدت سنوات طويلة. في هذه الأثناء، تمت خصخصة الكهرباء، إذ انتشرت مولدات الأحياء والقرى بما يخالف القانون، وبمباركة وزارة الطاقة، مع العلم أن ذلك يضاعف تلوّث الهواء، خاصة في المدن، زيادة على ما كانت عليه. لكن صحة الناس كما يبدو ليست في أولوية اهتمامات أهل “العقد والحل”.
هناك دجل أو هبل مارسه هذا الوزير أو ذاك بإرسال ملف الى مجلس الوزراء وسحبه عشية انعقاد مجلس الوزراء في جلسته الرسمية، قبل أن يتحوّل الأمر الى مجرد تصريف للأعمال، وبالتالي تنفقد القدرة على اتخاذ قرارات بهذه الأهمية.
ليس في هذا الكلام معارضة أو تأييد لأيديولوجيات الخصخصة التي هي من قواعد النيوليبرالية. لكن، من قال إن الخصخصة أو النيوليبرالية هي نفسها في دولة ذات قرار كما في دولة ذات سلطة مهلهلة ورثة. الخصخصة الرثة تحدث عادة على يد سلطة رثة وفي نظام رث.
احتكار الكهرباء منصوص عليه قانوناً عندما تأسست وزارة الكهرباء. وما انتشار ظاهرة المولدات الكهربائية في المدن والقرى اللبنانية بلا سند قانوني لهؤلاء أو للوزارة، إلا خير إشارة الى مخالفة الدستور. المخالفة هي مباركة خلق سوق سوداء، أو سوق موازية للكهرباء تشبه الى حد كبير السوق السوداء للدولار. ونكاد نرى السوق السوداء تشمل كل شيء. مرة أخرى، خصخصة رثة على يد سلطة رثة.
في مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حصلت خصخصة جزئية للكهرباء بتلزيم التوزيع من خلال الشبكة ذات التوتر المتدني، لمقاولين لا يفعلون شيئاً سوى الجباية؛ أي أنهم يجنون أرباحاً من الجباية وبعض الصيانة، ليس لقاء أي استثمار. كان ذلك يُفترض أن يكون بداية لخصخصة كاملة لقطاع الكهرباء، لكن حتى هذه كانت خصخصة بالمقلوب. إذ كان الأجدر أن يبدأ الأمر بخصخصة معامل الإنتاج وصولاً الى الشبكة والتوزيع. والأهم هو أن لا يُعطى القطاع الخاص أي امتياز دون أن يستثمر في ما يُرخّص له. وأن لا يكون الأمر مجرد منحة. ما يُحكى عن الشراكة بين القطاعين الخاص والعام يفترض أن يتأسس على قاعدة الشراكة في الاستثمار. الدولة بالأرض والتراخيص والقطاع الخاص بماله. لكن الرأسمالية اللبنانية تريد أن تكون الشراكة بتحميل الدولة الأعباء من دون أن تتحمل الشركات الخاصة أي عبء. خلق الربح دون استثمار.
إن شبكة واحدة للكهرباء في بلد كلبنان يعني أن تكون هناك شبكة واحدة للعلاقات الاجتماعية والطائفية والمناطقية وحتى العائلية والعشائرية. تتقاطع الهويات وتندمج كما تتقاطع الشبكة الكهربائية. ليس بالضرورة أن تكون العلاقة بين الشبكتين حتمية (الاجتماعية والكهربائية)، لكن تعدد الشبكات هو ما يمكن أن يرتبط بدوافع ونتائج كارثية تعبّر عن عزلة أجزاء من المجتمع عن بعضها البعض. الاعتماد المتبادل هو ما يوحد المجتمع في وقت تنهش أعضاءه الانقسامات الطائفية وأخواتها. لا بدّ وأن دعاة التقسيم، الذين يصعّدون من مطلب اللامركزية الى الفيدرالية الى الكونفيدرالية وصولا الى عزل المناطق اللبنانية عن بعضها البعض، يبتهجون بانقسام الشبكة الكهربائية الواحدة الى شبكات، ويدغدغ مشاعرهم انعزال المناطق اللبنانية عن بعضها البعض، وصولاً الى صيرورة الكيان اللبناني كيانات. نشر مشاعر التفوّق الأخلاقي والاجتماعي، وحتى ما يتعلّق بأسلوب العيش، هو ما يعمّق الانقسامات بين اللبنانيين. يكثر الحديث عن الجباية الكهربائية، وانضباط مناطق دون أخرى، ربما كان ذلك بعض الواقع، غير أن جعله مثلاً أعلى ينشد بعض “أهل الحل والعقد” تعميم الاتهام به هو في جوهر الاتجاهات التقسيمية. لا يتعلق الأمر بإمكانية حصول ذلك أو استحالته. غير أن السعي لتعميم القول به هو أساس الخطورة. إن بعثرة الكيان اللبناني تأخذ أشكالاً مختلفة.
يتبعثر المجتمع ويتذرر عندما تضعف الدولة ويتراجع الوعي بأهميتها ومركزيتها. ويصار الى انغلاق المجتمع وتحوله الى مجتمعات مغلقة الواحدة على نفسها. إضعاف الدولة ونظامها هو الوجه الآخر لبعثرة المجتمع الذي يتجسّد في انقسام نظام الكهرباء الى أنظمة الأحياء والقرى.
لقد جاءت مركزة نظام الكهرباء وكفايته لتزويد الناس بالتيار على مدار الساعات والأيام والشهور في وقت كان لبنان يتجه في نهاية تسعينيات القرن الماضي الى مركزية الدولة وكفايتها. تراجع نظام الكهرباء وبعثرته يشير الى تراجع هيبة النظام السياسي والى تراجع الوعي بالدولة، بالأحرى بالكيان، لدى اللبنانيين. خضوع نظام الكهرباء للطوائف وأكباشها هو في نفس الوقت خضوع اللبنانيين لمزيد من الانقسامات الطائفية والمناطقية التي تتعمّق.
لو أراد أهل السلطة في لبنان أن يكون البلد موحداً لما عصيّ عليهم أمر توحيد نظام الكهرباء. هذا مع العلم أنه بوجود شبكات التوزيع الكهربائي الحالية ليس أهون من زيادة الإنتاج ببناء معملين إضافيين في الزهراني والبداوي (دير عمار). إن إعادة التيار الكهربائي ليؤدي خدمة كاملة غير متقطعة، ولا تقنين فيها، لهو أمر سهل لا يستغرق أكثر من بضعة أشهر. هذا فيما لو توفرت النوايا. شبكة التوتر العالي والمنخفض موجودة. تلزيم معملين إضافيين يمكن أن يحدث بالتراضي مع شركات عالمية، وتركيب ماكينات جديدة تضاعف طاقة المعامل الموجودة لا يتطلّب سوى وقت قصير. ماكينة هنا وماكينة هناك وكان الأمر مقضياً. أسعار ماكينات الإنتاج معروفة عالمياً. والأمر يتطلّب من أحد أركان السلطة تكليف شركة عالمية بتركيب معملين، واحد هنا وواحد هناك، دون مهزلة تحضير دفتر شروط للاستشاري ثم لمقاول التركيب. وعلى كل حال، فإن شركة (EDF) الفرنسية تعمل مع السلطة اللبنانية منذ بداية التسعينيات، وهي التي حضّرت المخطط التوجيهي ولديها مواصفات المعملين، والمطلوب معملان مماثلان. لو كان من هو في موقع المسؤولية على مستوى مطلوب من المعرفة، لما أضاع الوقت بتحضير دفتر شروط للعمل الاستشاري ثم دفتر شروط لمقاولة الشراء والتركيب، على ما هو الأمر من الضرورة والحاجة الملحة. وعلى كل حال يمكن لمقاول التجهيز أن يحضّر الخرائط التنفيذية؛ وأن يكون تمويل المشروع جزءاً من المشروع، كما حدث في المشروعين الأولين. لكن لا حياة ولا حياء.. لمن تنادي.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق