الاسلام والمسيحية واليهودية أديان خلاصية. الحياة على الارض عابرة، والابدية في السماء. بالايمان والعقيدة يمتلك الانسان الحقيقة. لا يمكن الا الهداية الى الحقيقة. ولا يمكن الا الدفاع عن الحقيقة. يعتبرون انفسهم مقصّرين في حياتهم ان لم تكن مهمتهم الاساسية هي التبليغ، تبليغ الحقيقة لغير المؤمنين، او الذين لا يتوافقون مع ايمانهم. الحقيقة التي يؤمنون بها مطلقة، ولا يستطيعون التنازل بشأنها. هي حقيقة الهية مقدسة، والواجب هو السلوك بموجبها ودعوة الآخرين للسلوك بموجبها. ان لم يسعوا الى فرض حقيقتهم بالعنف والحرب والاكراه فهم لا يستطيعون التنازل عن بعضها، وبالتالي تستحيل عليهم التسوية. السياسة تحتّم التسوية، وهذه تفترض نسبية الحقيقة، إما لاننا نكتشفها تدريجاً أو لأنها تتغير مع الظروف، أو لأنها كلّية شمولية تمتنع على شخص أو جزء من الجماعة.
يستحيل على اتباع الاديان الثلاثة التعايش مع غيرهم من دون الفصل الكامل بين الدين والسياسة، ليس فقط الفصل بين الدولة والمؤسسة الدينية. الفصل بين الدين والسياسة يتطلب بنية ذهنية تخضع الدين للسياسة، وهذا أمر مستحيل ما دامت الحقيقة الدينية هي المطلقة. بالطبع اضطر الجميع، عبر التاريخ، الى الفصل بين المؤسستين السياسية والدينية، وبين العبادات والمعاملات، على ان تبقى المعاملات والمؤسسة السياسية خاضعة للمؤسسة الدينية وعبادات الحقيقة المطلقة. لم يتغير الوضع لصالح السياسة الا بعد نضالات وحروب أهلية طويلة ضد السلطة الدينية. هذا ما حدث في الغرب، ويحدث في بقية انحاء العالم، لكنه لا يحدث عندنا. ما زال اصحاب الدين يدّعون السلطة، او يحاولون فرض سلطتهم، عن طريق شعار تطبيق الشريعة، او ان الشريعة فوق الدستور، على اساس ان كل ما هو الهي يعلو على كل ما هو بشري، وما هو سماوي يعلو على كل ما هو أرضي. السماء تقرر ما يجري على الارض، لكن أهل الارض يحاسبون بعد الممات على ما فعلوا. هنا تناقض لا يستطيعون الخلاص منه. لذلك يلجأون الى حيلة اسمها الاعتدال.
ما فرضه الاعتدال هو صراع عالمي أدى الى اعتبار “التشدّد” أو التطرف الديني ارهاباً. شُنّت حرب عالمية على الارهاب. بغضّ النظر عمّا اذا كان الارهاب عملاً تقوم به الدولة أولا تقوم. حاول اصحاب الدين وشعار تطبيق الشريعة الهروب من ضربات حرب الارهاب بادّعاء الاعتدال. لم يقولوا صراحة انهم تخلوا عن مبدأ اطلاقية الحقيقة. ولم يهتموا لكون الامر يتناقض مع النسبية. لا يريدون التخلي عن مبدئهم الاساسي. يطمسون حقيقتهم وراء شعار الاعتدال.
يفترض الاعتدال حقيقتين وموقفاً وسطاً بينهما، ولا اعتدال مع حقيقة واحدة مطلقة. يحتاج الاعتدال الى وسطية. لا تستقيم الوسطية من دون التخلي عن المبدأ الاساسي الذي يتمسك به اصحابه.
هم في الواقع يتمسكون بالسلطة. يريدون الحفاظ على ما لديهم، وفي الوقت ذاته تبرئة انفسهم أمام سادة العالم. ولمّا كان الجهاديون المتطرفون المتشددون نبتوا في بيئة الحقيقة الواحدة المطلقة الخلاصية فإنهم يُعزلون، ولا مانع من ان يكونوا وحدهم موضوع الحرب العالمية على الارهاب. حفاظ على الاصل، وتضحية بالفرع الذي نتج عنه.
هناك من يقول ان للإرهاب، لاسيما التكفيري منه، بيئة اجتماعية حاضنة. لا يقرّ هؤلاء بأن البيئة الحاضنة هي منظومة سياسية تلاعبت بالدين منذ عقود. هذه المنظومة التي تنتهج القمع والاكراه والافقار والاذلال جعلت الحياة على الارض أمراً ميؤوساً منه. زال الامل على الارض، تعلّقت النفوس بالسماء. ما هذا التعلق الا نتيجة ما يجري على الارض، واقع يجعل الحياة مستحيلة، او ما يشبه ذلك. تكثر الممارسات الانتحارية وعشوائية القتل والتدمير. لا تبرير لذلك، لكن الاجدر وضع الحصان أمام العربة لا وراءها.
الاعتدال موقف يبرّر الوضع السياسي الراهن. وضع لا يتحمله الا المستفيدون منه. هم طبقة واحدة في مختلف أقطار المنطقة. يتشبثون بمنظومة سياسية لم يعد ممكناً بقاؤها الا بحماية خارجية.
ينشر بالتزامن مع الاعمار والاقتصاد