يفقد الطاغية ملكة التأدّب، يصير جلفاً غليظ القلب. طبيعي ذلك، لأنه يرى بأم عينيه مدى الخراب وتكاثر عدد القتلى والجرحى، فيتحجّر قلبه ويصير من حديد صلب. يعيش في منعزله. يعرف أن الناس يكرهونه. يبادلهم الشعور بالإضافة الى الاحتقار. يهيم بالسلطة، يعشقها. يرفعها الى مستوى الرسالة. السلطة هي القضية. قضايا المجتمع الأخرى ثانوية. يساوي نفسه وبقاءه بالقضية الكبرى. لم يتعلم الدروس من الطغاة الذين سبقوه.
الحاشية تمارس النفاق حياله. يحسب أنهم يحبونه وهم في الحقيقة لا يكترثون إلا لمصالحهم المادية المباشرة. لا يأمن اليهم، ولا يعرف متى ينقضّون عليه. مؤامرات القصر تعجّ بالهمس والتآمر والتواطؤ. جماعة مغلقة تحرس أبواب القصر، وتحرسها قوات حرس القصر، ويتنافسون في الحراسة.
العامة فقدوا ملكة التهذيب. هم مضطرون للانصياع والإقرار بجدوى السلطة. يرفعون الصوت عالياً بالتأييد كذباً من أجل حماية أنفسهم. يعرفون أن من يعرب عما يجول في نفسه ويخرج من تفاهته، يخسر أمنه. جعير أصوات التأييد الكاذب تصمّ الأذان.
يختفي الطاغية وتبقى الحاشية. يصير ميتاً سريرياً. يفقد أهليته للحكم، بل يفقد أهليته البشرية للعمل والفهم وتبادل الرأي وأخذ القرارات. الحاشية معلّق مصيرها به، كما في الجزائر مثلاً، لكنها تبقيه شبحاً. الشبح الذي يحكم الجزائر، يحكم بقية البلدان العربية. هم أشباح ولو تبقى لديهم بعض الأهلية.
غير مفهوم بقاء الطاغية الى الأبد. الأبدية صفة إلهية. يحسب الطاغية أن لديه صفات إلهية. فجور يتناقض مع كل قواعد اللياقة والأدب.
التعبير المثالي عن الحكام العرب هو بوتفليقة. غائب عن الوعي. غير موجود. شبح. دولة عميقة تحكم. لا تسمع أصوات الجماهير في الشارع. تتساءل الدولة العميقة عن هؤلاء: من هم؟ أليسوا هم الذين نشأوا في كنف النظام ولا يشكرون ربهم على هذه النعمة. أرباب السلطة يعتبرون أن أفضالهم على المجتمع كثيرة، وأن المجتمع لا يعترف بالجميل. على الجماهير أن تكون شاكرة لأنها باقية على قيد الحياة. النظام صنعها. النظام يصنع ما يشاء. على الناس السكوت والصمت والرضى بقسمتهم من هذه الدنيا. ربما قالوا في أنفسهم (أهل السلطة) ان نصيب الجماهير الهائجة سيكون في السماء. لدى أهل السلطة كما يعتقدون صلة مع الله. يستطيعون ضمان المصير في السماء.
هو شبح ومع ذلك يبغي الأبدية؛ صفة لا يعقل إلا أن تكون لله. ليس هناك ما هو أكثر وقاحة وقلة أدب وانحلالاً أخلاقياً من شخص جاء الى الوجود نتيجة حادثة بيولوجية، وحملته الصدف الى سدة الحكم. ومع ذلك هو يبغي الأبدية. تحوّل وجوده من حادث عرضي الى ضرورة وجودية لبلده ومجتمعه.
الملوك والأمراء مغتصبو السلطة؛ أو هم سليلو من جاؤوا قبلهم الى السلطة اغتصاباً. هذا لا يعني أنهم يستحقون الأبدية. هم نتيجة اغتصاب وحسب. ربما دفعت الظروف الى حلّ مرضٍ، ولو كان غير كامل. وهو أن تكون السلطة دستورية ورمزية وتخضع لقوانين صنعها البشر. بذلك تتحوّل أبديتهم الى وسيلة بيد المجتمع. يصيرون تحت المجتمع لا فوقه، ببقائهم على رمزية وجودية. أما الرئاسات الجمهورية فهي مشروطة بمحدودية الزمن في السلطة. أما أن تبغي الأبدية بعد ان انتخبت لأجل محدود، ففي ذلك مخالفة لعقدها مع المجتمع؛ بل أن في ذلك استباحة لا أخلاقية، نكثا بالوعد، انقلابا على العهد، وغشا للناس. انها قلة أدب مع الخالق إذ يتشبهون به. عدم ردّ الأمانة وسرقة ما ليس لهم. هم اعتادوا سلب أموال الناس بالمصادرة. الملكية بالنسبة لهم ليست حقاً لصاحبها لا ينتزع منه. هي مجرّد حيازة، يجوز للأقوى أن يسيطر عليها. يمارسون ممارسات تخجل منها القرون الوسطى وعصور المماليك. حكمهم عشوائي لا يفهم معنى العهود والوعود والعقود والمواثيق. يفهمون شيئاً واحداً فقط وهو أن إرادة الطاغية يجب أن تنفذ مهما كانت عشوائية، من دون أساس منطقي، أو من دون مسوّغ قانوني. هم فوق القانون لا تحته. القانون يخدم إرادتهم، وليس الأمر أن إرادتهم مهما جنحت يجب أن تتقيّد بالقانون. يسخرون من الناس ومن القانون. على الناس التقيّد بالقانون أو بإرادة الطاغية وحاشيته؛ أما هم فلا يتقيدون إلا بشيء واحد وهو رأيهم مهما كان سخيفاً ومبتذلاً وتافهاً. على كل حال، من لا يتقيّد بقانون هو بالأساس عشوائي وتافه. القانون بمعنى ما هو العقل؛ وما يميّز الإنسان عن الحيوانات هو العقل؛ ربما كان لبعض الحيوانات عقل أكثر منهم.
المسألة ليست أخلاقية وحسب. هي تتعلّق بمسار المجتمع كله. عشوائية الحاكم هي البلاء الأكبر. استكباره على القانون، والتعامل معه بسخرية واستخفاف، هو البلاء الأكبر. هو التعبير الأجلى عن احتقار الطاغية للناس وقوانينهم، وحتى عاداتهم وتراثهم. القوانين لم تخترع من لا شيء. وضعتها عقول تستند الى تاريخ الناس بتراثهم وعاداتهم وأخلاقهم. لا يأبه الطاغية بذلك. وكيف يأبه وهو قد نصّب نفسه إلهاً أو ما يشبه ذلك.
تنسحب هذه المسألة برمّتها على العلاقة بالمجتمع ومدى الاحترام لحياة الناس الذين هم بنظره أرقام. خُلقوا كي يخضعوا. كي يحكمهم هو. هو الضرورة التاريخية التي لولاها لما استقام شيء من أمر الأمة. حتى ولو هاجمه العدو ولم يردّ، لأنه يعجز عن الردّ بالمثل، يقول أن بقاءه هو الأساس. بقاء يؤسس للأبدية. أبديته هو. أبدية حكمه في خطر إذا أصابه ضرر. فليقع الضرر على المجتمع كي يبقى هو إلهاً. لا يحتاج الى شيء إلا نفسه. وليذهب المجتمع الى الجحيم. جحيم الفقر والذلّ والقمع والقسر والإكراه.
حاجة الطاغية الى الدين كبيرة. لا يكتفي بالدين الجديد الذي تحوّل إليه حزبه. ليست الأسباب طائفية وحسب. طائفته الحزبية أو الدينية لا تملأ المجال الإجتماعي. هو بحاجة الى ما يملأ هذا المجال. منذ أن عاهد الله على أن يكون قرينه وهو يبحث عن دين جديد يؤلّف بين الأديان والايديولوجيات الموجودة. وجد ضالته في النيوليبرالية. سمّوها الانفتاح. افتتن بها أصحاب المال. هذه أغدقت الوعود على المجتمع. قدّم لها الطاغية فرصة كبيرة عبر فتح الباب على مصراعيه لنشاطها في امتصاص ثروات الناس وافقارهم. كثر عدد الفقراء، وأخذت الهوّة بالاتساع بين دخل 1% من سكان الأرض وبقية الناس. الخصخصة أقوى مذاهب دين النيوليبرالية. تتبعها التجارة الحرة وفتح الحدود ونزع القيود التي تشكّل نوعاً من الفرملة على عمليات النيوليبرالية. دين عالمي. مرحلة أخرى من الرأسمالية. يخضع عن طريقها كل بلد لتدفقات رؤوس المال. رأس المال المالي شريك جديد في الألوهية. الدين القديم يبرّر. وفي نفس الوقت يجري وضعه تحت عباءة الدين الجديد. كل ذلك يصبح مكرساً للـcult ، وهي عبادة الفرد. لا يكفي أن يعلن الطاغية استعلاءه، بل يريد أيضاً أن يمارس الناس طقوس الخضوع، والأهم أن يكون الخضوع مقنعاً للطاغية فيوضع في قوالب جاهزة وحركات مقررة سلفاً؛ الطقوس تتكرر على مدار العام.
يمكن للطاغية أن يطرده رفاقه الذين جاؤوا به الى السلطة، أو ان يصدر كتاباً يلخّص فيه فلسفة الثورة، أو ان يصدر فرمانات تتعلّق بالتسيير الذاتي، أو تؤدي الى قسمة البلد وخروج جزء من الدولة لتشكيل دولة أخرى، أو ان يحتل العدو أجزاء من الدولة، أو تسرح في بلاده جيوش أجنبية من العيار الدولي أو عيار المنطقة. وممكن أن يكون قد اختفت كل مؤهلاته ولم يبق منه إلا الشبح. المهم البقاء في السلطة: الشبح والعبادة. شخصه يقدم لنا الشبح (حتى لو تمتّع بالكفاءة) والعبادة يقدمها الناس، عبادة تفرضها الأجهزة بكل كفاءة.
في كل هذا الأمر لا مكان للحوار بشأن الدولة والإنماء والإصلاح والتنمية والديمقراطية؛ لا مكان للسياسة. لا مكان للحوار مع الناس. عبادة وحسب. هذا جوهر منظومة سياسية عربية تدّعي محاربة الإرهاب والتكفير. إذ هي تتمتّع بحداثة لا نجد لها أثراً، بل عبادات وطقوس يخجل منها أهل القرون الوسطى. صيد السحرة مستمر. كل من تخوّل له نفسه البوح بما لا تمليه السلطة، بالأحرى طقوس العبادة، يكون مصيره السجن. وربما القتل. ليس في الأمر مؤامرة. طبيعة الأمور أن تصنع التفاهة وأن توزع بعدل على الطاغية والحاشية والرعية.
مع صناعة التفاهة وإلغاء السياسة وفرض الانصياع وخلط الدين بطقوس الطاعة، يصبح الكلام غير مفهوم. وفي أحسن الأحوال لا يعبّر عن شيء سوى الولوغ في النفاق؛ أكثر من ذلك، يصير الجميع كمن يتكلّم لغة “عصفوري” للتواصل مع المعبود الأبدي الذي لا يريد أن يسمع شيئاً سوى تمتمات، وعويل يفهم منه أن التقدير البالغ يقدّم لشخصه. كما حلقات الصوفية، تمتمات في حلقات ذكر للذات الإلهية. ومن هنا نصل الى الاستبداد وعشوائية اللغة في المرة القادمة.
(يتبع)
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق