يفرض الاستبداد نفسه. يقرر سلوك الناس. يعلّمهم الطاعة والامتثال لا حرية الضمير. الانضباط في ظل الاستبداد قسري. في الأنظمة الديمقراطية يكون الانضباط اختياريا تلقائيا. لا ينطق أحد إلا بما ترضى عنه السلطة. كلما اقترب الكلام ممّا يتلفّظ به الطاغية، وصولاً الى تكراره واجتراره، كلما كان الرضى أكثر والتقدم في المصالح أكثر.
يزرع صاحب الاستبداد عيونه وآذانه في كل زاوية من المجتمع. يُحدث رهبة. يخاف المرء أن يناقش بحرية وصراحة، يخشى الأخرين ويتوجّس منهم. ربما كانوا مخبرين. ربما كانوا يعملون مع نظام الطاغية بالسرّ. لا يمكن الخطأ. النظام لا يتحمّل إلا الانضباط التام. الأمن يتطلّب ذلك. يصير الانسان جباناً. كيف يجرؤ على تحدي سلطة الطاغية. يصير واشياً. يتكلّم عمّا رأى. حتى عمّا حدث عرضاً. يعتبر مسؤولاً. يصير بخيلاً. لا يعرف المصير. ولن يستطيع الاستنجاد بأحد. لا أحد ينجد من يقع لاعتبارات سياسية.
يأكل من لحم أصدقائه. يخونهم ويشي بهم. انها الطريقة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة أو خارج السجن. ليست المشكلة أن يخاف المرء من هذا النظام، نظام الطاغية. المشكلة إذا لم يخف، ففي ذلك تهوّر. حتى التهوّر مشكوك فيه. المصلحة في عدم التهوّر. لو لم يكن مدعوماً خارجياً لما تهوّر. هكذا يزعم العسس. في الديمقراطية الحقيقة، ديمقراطية المجتمع المفتوح، كل امرئ بريء حتى يدان. في نظام الطاغية الانسان مدان حتى يُبرّأ. عبء كبير على الواحد منا. الأفضل ألاّ يفعل المرء شيئاً لكي يعلق في دويخة النظام، ويبرهن على ما لم يحدث.
يفقد التعاون معناه وجدواه. يصير الكل ضدّ الكل. الكل مشكوك فيهم لدى النظام وبين بعضهم بعض. والكل مشكوك فيهم من الآخرين لكيلا يشكّ بهم أرباب نظام الاستبداد. تتهاوى الصداقات، تموت الصداقات؛ علاقات قائمة على التواصل بأدنى ما يتطلبه الأمر كي يحافظ المرء على سلامة نفسه. النفس أمّارة بالمبادرة. تموت المبادرة. يقتصر دور البشري على التلقي. جاءت وسائل التواصل الاجتماعي في الظرف التاريخي المناسب. عندما وصل الاستبداد الى الأوج. لم يعد على البشري سوى أن يتلقّى ما تيسر من سيل المعلومات. الماكينة مسؤولة عن معلومات “خاطئة” أو تعليق “مجحف”، صاحبها ليس مسؤولاً عن شيء. أن تكون مسؤولاً عن لا شيء في مجال القول والعمل، تكون سلامتك مضمونة. خطأ صغير يؤدي بك الى التهلكة. إذا رأى النظام الاستبدادي لوناً أحمر، عليك أن تقول أحمر. إذا قلت أنه مائل الى الاصفرار، يمكن أن يفسر ذلك “سياسياً” على أنه مخالفة “لخط” النظام. كل شيء يدخل في باب السياسة. حسب النظام أو ضده. بالتالي ألغيت السياسة من الوجود. هنا رأي واحد، رؤية واحدة، حقيقة واحدة. لا اجتهاد في النص. النص هو ما قرّره الطاغية. مخالفة النص “كفر”. ما يقوله النصّ رأس الاستبداد.
الأخلاق هي أن يتصرف الإنسان ويقول ما يريد أن يقوله حسب ضميره. للضمير تواصل مع الناس. في حياة سوية (من دون نظام الاستبداد) يناقش الناس أحوالهم وأحوال البلد والسياسة الداخلية والخارجية والاقتصاد والمجتمع والدفاع عن الوطن. أقفل باب النقاش. لا مجال للتواصل بين البشر. انقطعت العلاقات الأفقية في المجتمع. علاقة وحيدة بين الانسان، الممنوع أن يصير مواطناً من جهة، وبين الطاغية وحاشيته من جهة أخرى. مثل علاقة الإيمان بين الانسان والله، علاقة الانسان بالطاغية تحتل مكان العلاقة بالله. دعاة الدين، علماء الاختصاص الديني جاهزون لتبرير هذا الوضع. الله الكبير والله الصغير يتشابهان. الأمر سيان.
ينغلق المجتمع على نفسه. بعد أن تُدمّر علاقاته، يصير المجتمع جماعة من الأعداء؛ على الأقل جماعة من الذين لا يكترث الواحد منهم للآخر. النجاة بالنفس هي المثل الأعلى. الذي غير ذلك هو غير “ثوري”. لا تحقّ الثورة إلا لأرباب النظام. هؤلاء فعلوها (الثورة) منذ زمن. الراهن هو لتنفيذ أهداف الثورة. هي ما يقوله الطاغية. ومهما فعل لا أحد يستطيع محاسبته. ما على الناس إلا التلقي.
الهزائم كثيرة. كيف يشارك الناس في الدفاع عن وطن صادره الاستبداد. غالباً ما ينتاب الناس شعور أن هذا ليس وطنهم؛ هو وطن الطاغية وحاشيته وحسب. تُلغى الروح الوطنية بل تُلغى الروح الجماعية، بعد تدمير المجتمع وعلاقاته التعاونية. الاستبداد يرى في كل حدث انتصارا وتقدما. هو أسّس نظامه من أجل ذلك. على الجميع أن يروا ذلك حتى ولو لم يكن الأمر حقيقياً. الحقيقة هي ما يدور في رأس الطاغية وحده. هو يملكها ويوزعها على الناس. تُلغى الحقائق من المجتمع. يسود الكذب. هذا مرادف للنفاق. يوافقون الطاغية على حقائقه. يلغون ما في نفوسهم. يعتقدون أن نفوسهم فارغة، وعقولهم كذلك.
يعلّمك النظام، يفرض عليك آداب السلوك. هو في الحقيقة يفرض عليك الانضباط وعدم الخروج على ما يقوله الطاغية. عبودية من نوع جديد. مجتمع من العبيد. الطاغية لا يشتري العبد بالمال، كما في السابق، بل يشتريه بالأمن. العبد المسكين يكتفي بالأمن حفاظاً على حياته أو بقائه خارج السجن. مع فرض العبودية الجديدة، يقومون بمصادرة أموال الناس وممتلكاتهم. النيوليبرالية جعلت منهم أرباب أعمال. في أمانة تامة لايديولوجيا النيوليبرالية سيطروا على الأملاك الخاصة والعامة وكأنها نوع من الخصخصة. أفلس النظام بالكامل قبل إعلان النيوليبرالية كايديولوجيا النظام. لم يعد التدخل السياسي ـ العسكري بعد ذلك مستهجناً. فقد سبقه التدخل الاقتصادي الايديولوجي. ظهر أصحاب البلايين بعد ذلك مرتكزين على تحالف السلطة والنيوليبرالية والايديولوجيا التي دعمها رجال الدين بكل ما أوتوا من قوة.
كانت المصادرة لأموال الناس وشركاتهم أشبه بالسرقة وفي وضح النهار. ما فعله البلطجية بالناس أمنياً، فعله بلطجية المال اقتصادياً. ظهر للعلن ضباط جدد لم تكن أسماؤهم شهيرة. كما ظهر أسماء أصحاب بلايين جدد. لم يكن الأمر من دون تنسيق بينهم.
إن النهب المنظم لثروات المنطقة يعيدنا الى المراحل الأولى للتراكم البدائي الرأسمالي. ليس مبدأ الربح هو الذي يحكم التبادل بل المصادرة الفعلية لأملاك الناس وموارد الدولة على يد بضعة من المحظوظين من الحاشية.
إن التدمير الأخلاقي الحاصل عند الطبقة العليا يتجاوز المسائل الاقتصادية الى ما يتعلّق بالنساء والأولاد والهجرة. كارثة الهجرة التي تحصل باتجاه الغرب تتجاوز مسألة النزوح الداخلي؛ كأن هذه الأنظمة تريد أن تحكم شعباً غير موجود، شعبا مهاجراً. أصبح صعباً على المرء أن يحافظ على عرضه (شرفه) وماله وملكه.
تيأس الطبقات الدنيا فتترك الوطن. ويأكل الجشع كامل الطبقات العليا فتنهب الوطن. والأنكى من كل ذلك أن النظام ينشر الإشاعات بأن هناك من سيأتي محمّلاً بالدولارات لاعمار البلد؛ فكأن الخروج من الحرب الأهلية، واجتراح حلول سياسية، والاعمار المادي، كلها أمور منوطة بالقوى الأجنبية، وما على القوى المحلية إلا الإمعان في التقاتل والتخريب. لا بأس إذا حصل مزيد من القتل والتخريب (وسيُقتل المزيد من السكان في هذه المناسبة؛ هذا أمر ليس في بال قادة المقاتلين) ما دام الغير سيأتي ويبني كل شيء، وكأن شيئاً لم يكن.
انه انهيار أخلاقي كامل أن تدمر بلادنا، وأن ننتظر من الغير اعمار ما تهدم. نقتل ما لذّ وطاب (ممارسة السادية في القتال أساسية) ما دام الله سيحاسب؛ وحسابه مضمون النتائج حسب بلاغات مندوبيه من رجال الدين في الأرض.
لم يعد مهماً من يقاتل من. لم يعد مهماً أن الدول تجتمع في الخارج لتقرير مصير بلادنا من دون أن تكون حاضرة، وإن رؤساءنا وملوكنا يُستدعون مثل الخدم عندما يُراد أمر ما منهم. المهم أن جيوشنا صارت مرتزقة عند جيوش الغير. هم يقاتلون في حروب لا يفهمون أهدافها ومؤدّياتها. الأصح القول ان حكوماتنا مرتزقة. لا شأن لها بإدارة شؤون بلادنا.
في المشرق العربي دول كبرى واقليمية تجتمع في بلاد أجنبية من دون حضور رؤسائنا لبحث شؤون بلادهم؛ في الخليج دول خليجية تجتمع مع إسرائيل وكأن شيئاً لم يكن؛ في المغرب حروب ورؤساء يترشحون من دون أهلية صحية. شعوبنا تجوع والنفط متوفر. أمواله تسرق. الناس يموتون برداً.
البعد الأخلاقي لهذه المأساة بالغ الفداحة. متروك كل فرد لتأمين ما يمكن تأمينه من مواد العيش. العيش السويّ لم يعد ممكناً. الاضطرار الى التهريب والى الوسائل غير الشرعية الأخرى حتمي. شعوب مهزومة، مجتمعات تتفكّك، آليات سياسية معدومة أو منقطعة الصلة بالناس. أخر هموم حكام المنطقة هم الناس. يندى الجبين اذا استعرضنا ما يمرّ به المواطن العادي كي يؤمّن ما لا يكاد يكفي عيشه.
ليست المسألة هي الحفاظ على التراث أم عدمه. المسألة بقاء المجتمع وأخلاقه. بعد أن فعل الاستبداد والدين السياسي فعلهما، يجري تدمير المجتمع وإفساد ما تبقى منه وما تبقى لديه من الأخلاق. وهل تركوا شيئاً للناس كي يتعاملوا بما يتناسب مع الأخلاق وأداب السلوك، أم تركوهم للتسول على أبواب المنظمات الدولية أو التقاتل كالوحوش الكاسرة؟! لم يعد لدى الأكثرية من الفقراء شيئ من الوطن كي يحافظوا عليه. مطرودون يهيمون على وجوهم لا هاجس عندهم إلا البقاء.
ما وصلنا إليه هو حصيلة ترتيبات قام بها الاستبداد في وطننا العربي من المحيط الى المحيط. الترتيب الأول هو أن يطيع الناس الطاغية. الترتيب الثاني هو الهجرة. الترتيب الثالث هو تحوّل من بقي منهم الى امّعات الأرض.
هل يبدو وكأن هذا هو برنامج الثورة المضادة؟
(يتبع)
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق