الأصل في طبيعة الإنسان هو الحرية. نشأت السلطة ثم الدولة والثقافة في كل العصور، وكذلك الدين، لضبط الإنسان وتقييده والحد من حريته. اعتمدت السلطة على مدى العصور على التصنيف الطبقي. جعلت لكل شخص مكانة (مكانة في المجتمع، عالية او منخفضة) من أجل إيجاد مناعة ضد الحرية. يوازي ذلك خفض المناعة ضد الاستبداد. لم ينشأ الاستبداد إلا من الاستغلال. ينتج الناس منذ عصر الزراعة (والرعاية) فائضاً عن حاجاتهم. تقتطعه الطبقات العليا بمؤسساتها السياسية والدينية والثقافية. عملياً، تسلب هذه الطبقات ما لم تعمل من أجله ومن أجل إنتاجه. مع الأيام ازداد الاقتطاع والنهب. حتى لم يبق للفلاح أو الراعي أو حتى الصياد سوى ما يكفي للعيش. نظام من الطبقات الدنيا لأنها هي التي تنتج ما تنعم به الطبقات العليا. أما الإثنيات والقبائل، وحتى القوميات لاحقاً، فما هي إلا ترتيبات كي تصير أدوات بيد نظام الطبقات في مواجهة أنظمة أخرى. طبيعة الناس الحرية أصلاً، طبيعة الطبقات العليا هي الاستبداد أصلاً ولاحقاً.
الحرب كما حددها كلاوسويتز هي من أجل فرض الإرادة بالكامل على مجتمع آخر. المعنى الكامن وراء ذلك، والذي لا يقال دائما، هو أن الحرب الداخلية هدفها إزالة القوة المنافسة في اقتطاع الفائض الاقتصادي والاجتماعي بكامله. الآخر لدى الطبقات العليا هو الطبقات الدنيا أولاً. عندما توضع هذه بواسطة الثقافة والدين والأخلاق في قبضة الطبقات العليا، يمكن شن الحرب ضد دول أخرى ذات طبقات عليا ودنيا.
فرض الاستبداد ضد طبيعة البشر. النظام الطبقي أمضى التاريخ كله من أجل أن يفقد الناس هذه المناعة ويصير النظام متناغماً في تقسيم العمل بين أهل القوة واستسلام الجمهور. ولن يستسلم الجمهور بسهولة، وإلا فما معنى الثورات المتلاحقة عبر التاريخ، قبل الثورة الصناعية وبعدها. ليس للبروليتاريا شرف النضال وحدها ضد الاستبداد. الطبقات الدنيا الزراعية لم تكن أقل شراسة في مقاومة الاستبداد (والاستغلال، والنهب، وجميع أنواع الظلم الأخرى).
لا يختص دين أو ثقافة أو قومية أو سلطة في الاستبداد، ولم يكن التسامح لدى أي كان سوى نسبي، أي مؤقت ولأغراض عابرة. الأصل في السلطة هو الاستبداد والاستغلال. دار النقاش بين أهل الحل والعقد، على مر العصور، حول ضرورة الاستبداد. كان يُقال دائماً أن السلطة هيبة، والهيبة ضرورية لفرض الانتظام في المجتمع. هذا تزوير لطبيعة الإنسان. هو قائم على مقولة أن الإنسان شرير بطبعه، وأنه مستعد في كل لحظة للاحتيال على الآخرين ونهبهم وسرقتهم. إذا كان الأمر كذلك، فلماذا خلق الله الإنسان على صورته. وهل يمكن أن يكون الإنسان منذ خلقه شريرا وهو قد خلق على صورة الله؟. افتراض الإنسان شريراً بطبعه الأساسي يفترض ان الله شرير في خلقه للإنسان. هذا يتناقض مع أساس الفرضيات التي أسس عليها وجود الله. يفترضون الله رحمة للعالمين.
منذ البداية تحالفت السلطة والدين (الطبقة العليا في تقسيم العمل بين السياسة والدين) من أجل تغيير طبيعة الإنسان وقمعه كي تتغيّر طبيعته وينقلب من الحرية الى الخضوع والاستسلام. لا تريد السلطة شعباً يرفض الخضوع. ذلك يتناقض مع طبيعة السلطة. لا يريد الكهنة (وفي كل دين كهنة) إلا الانصياع للسلطة. يدّعون صيانة الأخلاق، وهم لم يخترعوا شيئاً منها. الأخلاق الحميدة موجودة منذ بداية البشرية، وعند كل البشرية. يريدون تطويع الأخلاق وتطويع الضمير كي يتحوّل الإنسان من الحرية الى العمل لا بموجب ضميره بل بموجب الأوامر الموجهة إليه. الأوامر والإرشادات والمواعظ، والتربية؛ كلها من أجل انتظام الإنسان في هيكل القمع. الهيكل يجمع السلطة السياسية والعسكرية وأرباب الدين.
الإنسان ابن ثقافته ولو خرج عليها. الثقافة قديمة قِدَم السلطة. السلطة هي ما يقرر الثقافة. لا خوف على أثر الثقافة التراثية فينا. الخوف من الانغلاق بين جدرانها. وهذا ما تسعى السلطة السياسية من أجله. الخوف هو أن نبني جدران الفصل بيننا وبين ثقافة الغرب، وهي الثقافة العالمية، فنحكم على أنفسنا بالعزلة. نحكم على أنفسنا بالعنصرية المضادة. الخوف هو أن نحصر أنفسنا ضمن قيود “الذاكرة التاريخية” فنمنع أنفسنا من التقدم. الخوف هو أن لا نتبنى الثقافة العالمية بما هي الثقافة المنتجة، وأن لا نتبنى منها سوى الجزء الذي يتعلّق بالنمط الاستهلاكي فنحكم على أنفسنا بالتبعية التنموية، بالأحرى نحكم على أنفسنا بالتبعية الاقتصادية (في كثير من الأقطار العربية، وحتى في بعض البلدان النفطية، ينمو الدين العام في سبيل تسهيل الاستهلاك وليس لتعزيز الإنتاج).
السلطة هي التي تتبنى الثقافة الموروثة تحت اسم الذاكرة التاريخية. السلطة الاستبدادية هي التي تدعم الاستبداد بالتراث. تُحجم عن التراث العالمي بحجة أنه غزو ثقافي غربي كيلا تتلوّث أدمغة الناس خاصة الشباب منهم بالتراث الثوري في الغرب. إن تبني الثقافة المحلية (وقد صارت ثقافتنا محلية بعد أن كانت هي الثقافة العالمية منذ بضعة قرون) هو ما يُفقد المجتمع مناعته وحصافته ضد الاستغلال. تحالف الاستبداد والدين لم يكن فقط عملاً انتهازياً لإحراز مكاسب مباشرة أو لتحسين العلاقات مع المذاهب والإثنيات الأخرى بقدر ما كان لاستخدام هذه المذاهب والإثنيات الأخرى في تبرير السلطة واستبدادها. هذا لا يعني أن تراث الأقلية أكثر تقبلاً للتحوّل نحو حركة التحرر. بل يعني وعي أهل السلطة بمن يعتقدون أنهم الكتلة التاريخية. وهم وحدهم الذين يشكلون خطراً على النظام القمعي. يؤدي المثقفون دورهم المرسوم من السلطة عندما يثيرون النعرات ضد الثقافة الغربية، وعندما لا يظهرون ان استقدام الثقافة الغربية (لا مجرد النمط الاستهلاكي) هو نوع من النضال ضد نظام القمع والاستبداد، لتشكّل مناعة مجتمعنا ضد الاستبداد. وهي الأصل الطبيعي لكل مجتمع. وهي الهدف الطبيعي لكل مجتمع. لا يمكن تعزيزها إلا بأن نتبنى الثقافة الغربية، وأن لا نخاف مما يسمى الغزو الثقافي. الذين يخشون الغزو الثقافي الغربي هم جماعة أنظمة القمع والاستبداد. هم الذين يستخدمون الثقافة المحلية من أجل الضبط والتحكم والعزلة الذاتية والعنصرية المضادة التي نمارسها ضد أنفسنا.
علينا أن نفهم أن التطوّر لا يسير إلا عن طريق التجاوز؛ أن نتجاوز ثقافتنا الموروثة. أن نتجاوز هويتنا. أن نتجاوز أنفسنا. أن نبني هوية جديدة. نتعلمها من الغرب. نبني بواسطتها كياناً أو كيانات معادية سياسياً للغرب. هناك فرق بين التلاقح الثقافي (تبعية) وبين التبعية السياسية، شرط أن لا تكون المعارضة السياسية للغرب فخاً للوقوع أسرى أنظمة القمع والاستبداد التي تدّعي الحداثة والعلمانية.
يجرّنا هذا الاعتبار الى استنتاج أن “تحالف الأقليات” في سبيل التحرر المزعوم من ظلم الأكثرية هو تحالف ملغوم أصلاً وخاطىء بكليته. الذين ظلمهم الاستبداد عبر التاريخ، وفي مراحل حكم الأقليات، يفوق عددهم بعشرات المرات عدد الأقليات. وهؤلاء جميعهم من الأكثرية المزعومة. لا يمكن إعادة اكتساب المناعة المجتمعية ضد الاستبداد إلا بتحالف جميع الطبقات الدنيا، من جميع الطوائف والإثنيات ضد أنظمة الاستبداد بجميع أشكالها وجميع مزاعمها. تحالف الأقليات مشروع آخر للحرب الأهلية. مشروع تحالف كل ضحايا الاستبداد، من جميع المذاهب، ومن الأكثريات والأقليات المزعومة هو المشروع التحرري الوحيد. لا ننسى أن الطبقات العليا للأقليات ساهمت بكل فعالية مع الدولة العثمانية ومع الاستعمار الغربي ومع أنظمة الاستبداد التي حكمت بعد التحرر الوطني. وفي عصر السيادة، ساهمت في قمع الأقليات التي تدعي الإنتماء إليها.
التعددية أمر طبيعي. أمر يجب المحافظة عليه. هو ما يحفظ سوية الأكثرية والأقليات معاً. تحقيق التعددية يكون بالمواطنة، المساواة في المواطنة. وهذه لا تعني أكثر من الديمقراطية حيث يشارك الجميع على قدم المساواة كأفراد في الدولة. الإنقاذ هو في فهم الدولة، في انغرازها في ضمير كل منا. لا تبلغ الدولة هذا المستوى إلا عندما تصبح دولة الجميع. يشارك فيها الجميع مشاركة تجعل الدولة إطاراً للمجتمع لا عبءا جاثماً على صدره. أن تصير الدولة “نحن” وليس “هم” فقط. أن تصير الدولة جماعة مواطنيها بغضّ النظر عن أصولهم الإثنية والطائفية.
تجرّد السلطة المجتمع من مناعته ضد الاستبداد عندما تقسّم المجتمع الى طوائف تعتبرها عناصر أو “مكونات” المجتمع (تعبير آخر لمعنى الطوائف). تشنّ السلطة حرباً على المجتمع باسم الطوائف من جهة والحداثة من جهة أخرى. تعتبر الطوائف الأخرى “بيئة حاضنة” للتطرّف الديني. بالمقابل تنتحل لنفسها صفة الحداثة والعلمانية، لإخفاء طائفية أشد وأدهى.
تحتاج الأقطار العربية الى صلح فيما بينها (بما يذكّر بصلح وستفاليا عام 1648 في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت). وتحتاج في الوقت عينه الى التعامل مع رعاياها كمواطنين. دأبت هذه الأنظمة على طرد مواطنيها الى دول مجاورة وغير عربية لإنتاج تحوّل ديموغرافي يريحها ويربك جيرانها. على هذه الأنظمة أن تسترد جميع مواطنيها وتعمل على إصلاح يجعل من الناس مواطنين لا رعايا. مواطنين مشاركين في تقرير مسار الأمور، لا مجرد رعايا ينتظرون أوامر الطاغية. يعني ذلك استرداد المجتمع للمناعة ضد الاستبداد. ويعني أيضاً أن على هذه الأنظمة أن تتحوّل الى دول حقيقية (دول يشارك فيها مواطنوها على كل المستويات) ولا تبقى مجرد سلطات استبداد للقمع. أخطر ما تقوم به هذه الأنظمة هو محاولة التغيير الديمغرافي عندها وعند الدول المجاورة. لا يستقيم أمر دول الاستبداد إلا باسترجاع جميع مواطنيها، كمواطنين لا كرعايا (مرة أخرى).
يعمل الاستبداد على تدمير مناعة المجتمع وعلى تدمير المجتمع، وعلى جعله قابلاً للاستبداد بما فيها ما يتناسب مع طبيعة البشر الأساسية وهي الحرية والتعاون. الأنظمة الأمنية وأنظمة المخابرات والرقابة وما يتبع ذلك من اعتقال وتعذيب وإحصاء أنفاس كل مواطن؛ كل ذلك يهدف الى تدمير المجتمع وتحويله الى رعايا تكرّر أقوال الطاغية في كل لحظة.
مناعة المجتمع ضد الاستبداد تُدمّر؛ يدمّرها الاستبداد. لا يعمل الاستبداد على أساس أن هذه المناعة هي ما يتناسب مع الطبيعة البشرية (منذ فجر التاريخ). هذه المناعة هي العقبة الأساسية في وجه الاستبداد. سواء كانت مضمرة أو ملأت شوارع المدينة والقرية بالاحتجاج، لا تستطيع دولة أن تحافظ على سيادة بلدها بينما هي تدمّر مناعة المجتمع ضد الاستبداد.
مع استفحال الأمر تتحوّل المناعة ضد الاستبداد الى أشكال من التديّن. هي ضد السلطة المدّعية الحداثة، وضد الأشكال الدينية السياسية المتحالفة مع السلطة القمعية. المسؤول عن التطرّف الديني هو نظام القمع. هو النظام الذي جعل الدين العادي المتعايش مع نفسه ومع الآخرين أمراً طبيعياً. لم يظهر الدين السياسي المتطرّف إلا كشكل من أشكال المقاومة ضد نظام القمع وإن بأشكال تمجّها النفس ويقف ضدها كل عاقل.
الاستبداد ضد الطبيعة البشرية. فطر الإنسان على الحرية والتعاون. ولم يفطر على أن يكون منصاعاً مستسلماً لقدره ولإرادة الطاغية. حكم الطاغية ليس قدر الإنسان. الحرية هي قدر الإنسان؛ هذا ما يتعارض كلياً مع حكم الطاغية ومع طبائع الاستبداد. كان عبد الرحمن الكواكبي على حق. ما زال طغاة عهود الاستقلال ورثاء عهد الطغيان الحميدي الذي كان أرحم منهم.
(يتبع)
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق