أن تكون تافهاً في ظل الاستبداد فأنت آمن. من الطبيعي أن يقلّد الناس حكامهم. فإذا كان الحاكم المستبد قد وصل للسلطة بصدفة الوراثة فنادراً ما يكون على قدر من الثقافة والتعلّم والتجربة والمعرفة. التفاهة تجرّ التفاهة. لكن الحاكم المستبد، من هذا النوع، يعتبر نفسه مستحقاً للمنصب لصفات فيه تضفي الكفاءة عليه. هو غير مضطر للعمل والاجتهاد كي يستحق المنصب. لا يدرك أنه موجود هناك بالصدفة، وأنه ربما كان أسوأ ما أتاحته الصدفة. يصل في تصرفه التافه الغبي الى حد التهريج. ورثة السلطة، وهم كثر، خاصة الذين وصلوا لمناصبهم بالصدفة البيولوجية، يشبهون المهرجين شكلاً وموضوعاً.
يبدأ الغباء بأن لا يعرف المستبد بالنتائج المحتملة لأفعاله. دفاعه عن السلطة يمكن أن يؤدي الى حرب أهلية. لا يأبه لذلك. يختلف مع الناس، وهم على خطأ؛ هذا أمر طبيعي بالنسبة له. الحرب الأهلية تضعف البلد، الشرعية واهية، إذن يستقدم قوى أجنبية بجيوشها لتدافع عن نظامه. وبالرغم من ذلك يستمر بالحديث عن السيادة. قدرته على قهر العدو مؤجلة لسنوات طويلة؛ سلاحه موجّه ضد الناس. يجب قهر شعبنا قبل العدو. هل يريد قهر العدو من دون شعبه؟ الثورية التي ورثها باقية في خطاب السلطة، بينما هو نقل الدولة الى الخصخصة وسرقة الناس عن طريق النيوليبرالية، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم عن طريق بلطجية رأس المال. خطاب مخالف للواقع بالكامل، لكن الخطاب الكاذب مستمر والواقع يستمر من سيّء الى أسوأ، ومن مذبحة الى أخرى، ومن قضم جزء من الوطن لصالح دولة أجنبية الى قضم آخر. يحسب الناس أغبياء. غباؤه ينعكس على الناس، على الأقل في نظره.
لو أقرّ المستبد بما أعطى من قوى عقلية لهان الأمر. لكنه يعتقد أنه اجتمع في ذاته عبقرية تطال كل الحقول. فهو يستطيع التحدث في أي شيء، غالباً بكفاءة أو مع كثير من المغالطات، وعلى الجميع اجترار ما يقول. إذا لم يستجب الناس بهذه الطريقة فهم خونة. يصير وضعهم السياسي والأمني في خطر. التدريب العسكري هو أن تسير مثل جارك من دون عجلة أو إسراع، هذا ما تفرضه السلطة التافهة على الناس. ليس فقط فرض التفاهة، بل جعلها المثل الأعلى؛ وفي ذلك يتساوى الجميع.
بعد تدمير المجتمع وتدمير الأخلاق وإلغاء السياسة ومصادرة المجتمع، طبيعي أن تنتشر التفاهة التي لا تعكس حقيقة الشعب ومستواه، بل حقيقة الاستبداد وحاشيته ومستواهما. يبرعون فقط في أعمال المخابرات، بلطجية المخابرات، ويفرضونها على البقية. الخوف أن تنتقل التفاهة الى المعارضة، وأن تصير هذه، مع الزمن، صورة عن الحاكم المستبد وانعكاسا له.
هم عباقرة في صنع التفاهة؛ هي عكس الذكاء والدراية. يسيرون عكس بقية البشرية. ينفردون في أن يكونوا “كركوزات”. نمتنع عن ذكر الصفات الأخرى عندهم كيلا نقع في الإقذاع وشبهة الشتيمة.
هم ليسوا من هذا العالم. لا يعرفونه. لا يفقهونه. لا يدركونه. تغيّر العالم منذ زمن آبائهم. خطابهم اليوم يعكس أيام أبائهم. لا علاقة للخطاب بالزمن المعاصر. لا يعيشون في زمانهم. هم خارج التاريخ. يعجبهم ذلك. تزداد نفوسهم انتفاخاً. إنهم فوق العصر. هم فوق الناس، إذن فوق التاريخ. ألهة صغار يمثلون الألهة الكبار. رجال الدين مفتونون بهم. منهم من يسير وراءهم، ومنهم من يعارضهم. لكنهم يدعمون منطقهم وأكثر. يدينون بالطاعة لهم. فهم يقبضون رواتبهم من نظامهم.
معارضتهم تستمدّ خطابها من كونها الخصم. يضطر المعارضون الى الحفاظ على المستوى المتدني كي يستقيم الجدال مع نظام الاستبداد. يختلفون واياهم على الممارسات من دون الخوض في الأسس الفكرية والايديولوجية والعقائدية التي آل إليها نظام الاستبداد. الصراع على السلطة محض صراع بخطابين متكافئين في التفاهة. تخرج المعارضة على النظام ولا تخرج منه. رؤاهم متشاركة. ملخّصها النظرة للناس على أنهم ادوات وحسب؛ أدوات للسلطة بهذا الاتجاه أو ذاك. ربما كانت واحدة من خصائص الحرب الأهلية أن الطرفين المتصارعين، بالأحرى الأطراف المتصارعة، هم على نفس السوية الفكرية والايديولوجية.
ربما أنتج الاستبداد في بلاد أخرى، وفي ظروف أخرى غير ظروفنا، شيئاً غير التفاهة. لكن الاستبداد في بلادنا لا ينتج شيئاً غير التفاهة. متحالف مع الدين. الدين يمنع التفكير كما أنظمة المخابرات. لدى كليهما الاعتقاد أن المواطن عليه أن لا يفكر او يبدع، أن لا يستخدم عقله. أن يضع العقل في استراحة دائمة. المخابرات للمراقبة، وزبانية الدين للتأكد من أن المواطن لم يستخدم عقله. ما دام التفكير معدوماً، فالحياة متكررة. يجترّ صاحبها الأفكار، ينتابه الملل والضجر والسأم. يصبح عنده الموت والحياة متساويين. وهل تستطيع أن تكون غير تافه في نظام يجعل حياتك أشبه بالموت. حياة محكومة بالشلل الفكري والمادي. حياة لا تعني شيئاً. هي والموت سيان.
نظام رضي أن يكون وشعبه خارج السياسة، خارج الثقافة، خارج القضية؛ لا همّ له إلا الاستمرار في السلطة. لم يظهر فيه شيء جديد من المحيط الى المحيط. يريد من الجميع تكرار ما حفظوه عن ظهر قلب. لا يريد منهم إلا أن يحفظوا. تعمل الذاكرة من دون تفكير. كيف يبدع هذا المجتمع ويخرج من نفسه؟ المجتمع المغلق لا يخرج الى العالم. الحديث عن العالم لا يشمل البلدان العربية.
تنهض الشعوب. تحرز تقدما. ثم تخترع تاريخاً للقول أنها الآن كذلك لأنها كانت كذلك. عندما يبدأون بالعكس، فهم لا يهمهم النهوض والتقدم. تاريخنا موجود على الأمجاد. كنا كذلك ولذلك يجب أن نبقى على حالتنا، بل أن نقلد السلف الصالح صاحب الأمجاد. يشترك علمانيو الأنظمة ورجال الدين فيها بتكرار هذا المنطق. تطمئن هذه البنية العقلية لتفاهة الراهن ما دام الماضي مجيداً.
الأمر ليس بريئاً. هي المؤامرة الحقيقية على الناس وعلى عقولهم. ما ان ظهرت بوادر ثورة 2011 حتى تسارعت الأنظمة العربية لمنع نتائجها من الإزهار. يهاجمون الشعوب العربية بالحروب الأهلية، ويحاربون عقولها بالتفاهة. حكامنا: واعظ هنا، متّكئ على العصا هناك، وزائر دائم لطهران هنالك. صبي أحمق يعتلي السلطة مع والده العجوز. فكأنه لم يولد إلا للسلطة. قمة التفاهة هي في حاكم يترشّح للرئاسة وهو غير موجود؛ غير موجود عقلياً على الرغم من وجوده الجسدي على كرسي نقّال. هو شبح الحاكم. الحاكم الفعلي في مكان آخر. ربما كان الحاكم الفعلي قريباً من الشبح أو في بلد أوروبي مباشر. وفي جميع الأحوال هي عصابة تمسك بتلابيب الحكم في أرجاء بلاد العرب. حوّلوا السلطة الى مافيا. لا همّ للمافيا إلا النهب. في 20 عاماً جرى نهب نحو الف بليون دولار أميركي. تتنوّع المافيات وكميات النهب والمصادرات في أقطار الوطن العربي والنتيجة واحدة. حكام يعيدون توليد بعضهم بعض بالتوريث ومساعدة الأجانب. المهم أن تبقى الثورة على مبادئها. يضحكون على شعوبهم. يسخرون منها. يعرفون أنهم يكذبون. ويعرفون بأن شعوبهم تعرف أنهم يكذبون، لكنهم مستمرون باستمرار الثورة التي لم يبق منها شيء سوى الاجترار.
التافه في مجتمع عربي هو الذي صغر عقله، وصغرت أحلامه وأهدافه. هو المواطن الصالح الذي يعود الى بيته متلطياً من حائط الى حائط كيلا يراه أحد، خاصة عسس المخابرات. هو الذي لا يتحدث في السياسة الدولية. يراقبها فقط من دون التعليق عليها. هو الذي لا يفكّر في الموضوع بل في الكلام، وكيف سوف يتلقاه جماعة المخابرات. الرغبة في استقرار البلد وفي استمراره هو وعائلته تعلو على كل شيء، وعلى كل القضايا الوطنية والقومية، وتنحصر بأمر احضار مواد الغذاء اليومية. لا يتحدث بأمر السياسة الأميركية والأمم المتحدة ولا حتى إسرائيل. النظام وأزلامه يتحدثون عن هذه القضايا يومياً، ويدلون بتصريحات على الجميع تكرارها بعد سماعها. فلماذا تعليق المواطن إذن؟ الخطر إذا قال المواطن شيئاً لا يناسب السلطة. عندها تعمل التقارير. المواطن المسكين لا يعرف أنه ارتكب خطأً في قول ما لا يتناسب مع السلطة. عندما يُستدعى سيضطر للكلام عن شيء سمعه. من يدمن القول سيدمن الخطر. لذا القول القليل سيعرّض صاحبه للخطر القليل. كثرة الكلام تؤذي صاحبها. إمكانية الخطأ بالنسبة للسلطة في الإكثار من الكلام يمكن أن تجر الى داهية.
الشعب يُصنع، يُعاد هندسة فكره ووعيه. لا يعرف الطاغوت أن النتائج مستحيلة، وأنه مهما استكان المواطن فسيأتي يوم يحدث فيه الانفجار الكبير.
الاستبداد في بلدنا يصنع التفاهة. لا مهمة له غيرها. التافه هو الصغير، فاقد الوزن، زهيد القيمة، بخس الاحترام للذات. هو الذي إذا أضفته الى احدى كقتي الميزان لا يصنع فرقاً. وجود الحاكم التافه لا يصنع فرقاً في ميزان القوى المحلية أو الدولية. الاستبداد في مشرقنا ومغربنا يصنع التفاهة بمعنى أن لا علاقة لنا بوجودنا. نحن موجودون على هامش الوجود، وعلى هامش العالم. الكون هو ذاته بوجودنا أو عدم وجودنا. نحن لسنا هامشيين ولا مهمّشين. الاستبداد صنع الإثنين معاً.
(يتبع)
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق