الهوية نقيضة الإرادة. الأولى؛ تعتمد على العلاقة مع الآخر وليس على الذات وحدها بل على كل الظروف الموضوعية. الثانية؛ تنبع من الذات وتفيض إلى الخارج، على أن الإرادة التي لا تأخذ هذه الظروف الموضوعية بالاعتبار تبالغ في اعتبار نفسها ولا تسلم من الخلل. لكن المهم في الأمر أن الإرادة ذات اتجاه ثابت بينما الهوية باتجاهين من وإلى الذات.
الهوية في الغالب سلبية الطابع أو passive وتعتمد على التلقي بينما الإرادة فعل تحفيز ومبادرة، لذلك فإن النضالات التي تعتمد على الهوية وحدها تنتهي بأصحابها إلى الهزائم والحروب الأهلية، ومعظم الحروب العربية تعتمد مبدأ الحق (الذي لا شك فيه لكنه غير كافٍ) الذي يتعلق بمن يكون صاحبه وما يتعلّق به، مما يعطيه التفوّق الأخلاقي على خصم لا حق له، إنما له إرادة وعزم وبالتالي قوة ومبادرة. الاقتصار على الحق ينتهي بأصحابه إلى الارتخاء الذهني واعتبار النصر مُحققاً.
تقتضي الإرادة المبادرة وهذه بطبيعة الأمور لا تفلح إذا لم يصحبها تشغيل العقل في البرمجة والتخطيط والبحث عن سبل النجاح، فلا تفيد معها الاستكانة دون القلق على المصير، مما يتطلّب جهداً في الفكر والممارسة، بينما يقتصر أصحاب الثانية (أي الهوية) على الممارسة باعتبار أن أمور الفكر محلولة، فالشمس شارقة والناس قاشعة، والكل يعرف من نحن. مع الإرادة ليست الأولوية لمن نحن بل لكيف يجب أن نكون، لذلك يتصف الأولون بالمحافظة والحرص على التقليد في أمور الفكر والاتصال الاجتماعي، بينما يضطر الآخرون إلى البحث والتقصي وولوج المجهول. فهم يعرفون من هم، ربما، لكنهم ليسوا متأكدين مما سيكونون عليه إلا فيما يتعلّق بأنهم يريدون صنع مستقبلهم بأنفسهم أينما قادهم ذلك، والأرجح أن ذلك سوف يكون الحداثة التي ينفر منها أصحاب الهوية، الذين لا يعرفون من الحداثة إلا استهلاك منتجاتها دون أن يأبهوا بالعلم والفكر والتنظيم، وما قاد ويقود إلى انتاجها. يطغى على مجتمعنا الطابع الاستهلاكي، وتنتشر المقاومة بالاعتماد على الغير الذي غالباً ما يكون قوة خارجية. وما زالت الدعوة إلى أولوية الإرادة والاتكال على الذات وإعطاء الإنتاج أولوية على الاستهلاك قليلة الانتشار في بلادنا. وهذه نزعة تغذيها الامبريالية ومن حاول وراثتها في الشرق.
العنصر الأساسي عند من يعطون الأولوية للهوية هو العامل الديني الذي يهيمن على فكرهم، وفيه الكثير مما يبشر بالنصر ولو على حساب موازين القوى. إذ لا يستطيعون الخروج من أوهام أن الله معنا وهو ولي الأمر وسوف ينصرنا مهما كانت تحضيراتنا للمواجهة. فليكن الاتكال على الله وإليه الاحتساب.
أصحاب الإرادة يعقلون قبل التوكل، وهم يعلمون أن ليس لديهم من يلام إلا هم إذا جاءت نتائج النضال في غير صالحهم. عليهم الاتكال على أنفسهم والتوكل لا يحدث عندهم إلا بعد أن يعدوا العدة. أصحاب الإرادة بأولويتها على الهوية يأخذون ميزان القوى بالاعتبار ولا يُقْدِمون إلا حتى كانت تجهيزاتهم تفي بالغرض، وهؤلاء قلة في مجتمعنا. وهم محاصرون بين أنظمة استبداد هاربة بجيوشها من المعركة، وبين مقاومة شعبية لا تملك من مقومات المعركة إلا بعض أفكار الحق والاستعلاء الأخلاقي. أصحاب الإرادة متشائمون لما يرون من أحوال أنظمتنا ومجتمعاتنا، بينما يُصاب أصحاب الهوية، برغم تفاؤلهم الدائم، بالصدمة تلو الأخرى، إذ يرمون بأنفسهم إلى التهلكة مهما كان ميزان القوى. فلديهم زخم روحي كبير وفقر عقلاني.
لم نتعلم بعد أن تكون أولويتنا الإرادة وأنها لا تفي بما يطلب منها إلا بالاستعداد. وهذا يتطلّب الأخذ بالعلم الحديث وما يتطلبه من مراكز بحوث تدعمها قوى إنتاج بشري يعتمد الذكاء والجهد، ويهدف إلى نهوض اقتصادي يتطلّب زمناً يستغرق سنوات. لا يستطيع أصحاب الهوية الصبر.
لم تكن تنقصنا الأسلحة في الحرب الأخيرة بل تكدس منها ما يفوق الحاجة. لكنها كانت ذات تكنولوجيا القرن العشرين، بينما العدو يتصيدنا بأسلحة القرن الواحد والعشرين. كان العدو يقاتلنا بالمستقبل ونحن نقاوم بالماضي، وما أدركنا أن المستقبل لم يصبح مستقبلاً إلا لأنه هزم الماضي بكونه تجاوزٌ تفوقّ على الماضي.
الفرق بين الإرادة والهوية هو ما بين الحافز لصنع المستقبل بالأولى، والاستسلام للماضي بالثانية. ومحاولة التسامي بالحق تعبير عن التمسّك بالثانية، مما يزعزع أسس المقاومة والصراع ضد المنظومة العربية القائمة أو ضد العدو الإسرائيلي. لا يستقيم أمر الهوية بالإرادة، ولا أمر هذه إلا بالعمل والسعي والإنتاج. النهوض الاقتصادي والاجتماعي يتحقق بالإرادة، وهذا يقهر الأعداء والخصوم في الداخل والخارج. إذ هو يضع الهوية على أسس أخرى، يُشكّل الإبداع جزءاً منها. ومن لا يُبدع لا يُفلح في عالمنا المعاصر، ويبقى قاصراً متأخراً، بينما القافلة تسير ولا تنتظرنا. وما يتطلبه الأمر هو الإشاحة بنظرنا عن الماضي والتطلّع إلى المستقبل بإرادة تجاوزت ما مضى بآلامه وجراحه.
لم يعد بإمكاننا السكن في الماضي والإشاحة عن التاريخ؛ ذلك يحيلنا إلى هامش التاريخ. والفرق بين سكن الماضي وصناعة التاريخ كبير. هو الفرق بين الموت والحياة. ألا نرى واقع الحروب الأهلية الناتجة عن سياسات الهوية والقبوع في الماضي، وهي تبيدنا، ويستخدمها أعداؤنا في تجهيلنا وسحقنا. يستعملنا الغرب الامبريالي لإبادة أنفسنا ويُحرّك قواته عند اللزوم.
الهوية في الغالب معطاة سواء أكانت دينية أو إثنية أو عشائرية أو ما يشبه ذلك. الإرادة تجاوز للمعطى عند من يستخدم العقل ويواكب الحداثة ويتجاوز الماضي وصولاً إلى بناء تاريخ جديد غير الماضي. في الماضي ثبات، وفي التاريخ تحوّل. ولا بدّ من التغيير في التحوّل من الثبات إلى التحوّل، ومن الهوية إلى الإرادة. الدين ذاته يُمكن أن يعيننا على التحوّل، لكننا نستخدمه للثبات الذي استخدمته المنظومة الحاكمة، منظومة الاستبداد والفساد حتى الثمالة. حتى صار الفن الوحيد الذي تجيده أنظمتنا لطمس الإرادة، ومنع التغيير، وقمع الإبداع. وصار القمع جزءاً من شخصيتنا، إذ نقمع أنفسنا خوفاً من إتيان ما يُغضب أجهزة الاستبداد. وهذا ما نُسميه الانقماع أو القمع الذاتي.
خرج الجمهور العربي من ذلك في الثورة العربية عام 2011، فكانت مقاومة ذلك على يد المنظومة العربية الحاكمة بالحروب الأهلية. إذ شعرت هذه المنظومة بالتغيير ورأت الإرادة، إرادة الشعوب في الميادين. فاستخدمت الهوية، بالأحرى الهويات. وهي عنصريات أخرى لمنع الناس من تحقيق دولتهم.
الثورة العربية جعلت الصراع إرادة من أجل الدولة، أما منظومة الاستبداد فقد أحالته إلى تقاتل حول الهويات. لكن الثورة لا بدّ أن تُؤتي أكلها ولو بعد حين. من الصعب أن تكون نتائج الثورة مباشرة وآنية، لكن تراكمها أو تراكم نتائجها الواحدة بعد الأخرى هو ما يُحرّر. والحرية لا بدّ أن تكون من ذاتنا، وفي ذاتنا، واتجاه ذاتنا لتخرجنا من قيود الهوية.
ما زلنا نناقش الماضي في مجالسنا لأن وعينا مسكون بالماضي، وكأننا نريد تصفيته بدل إرادة تجاوزه. وما تحطيم تماثيل قادة الماضي إلا دليل على ذلك. أليس جنوناً وتفاهةً تدمير تمثال أبي العلاء المعري؟ في لندن شارع بإسم نابليون، وحرص على المبنى الذي سكنه كارل ماركس. فهل يحصل ما يشبهه عندنا؟ أليس تدمير الآثار في تدمر قطع مع التاريخ؟ التاريخ ليس أن نخجل من الماضي بل أن نتجاوزه برغم احتفاظنا به. لعنُ قادة الماضي لا يفيدنا؛ ما يفيدنا هو ليس الاقتداء بهم بل الاستفادة من تجاربهم من أجل تفاديها. الوعي الذي قاد إلى تدمير تماثيل بوذا عند “الطالبان” هو نفسه الذي دمّر تدمر وغيرها من الآثار، وهو وعي غير تاريخي يريد قطيعة مع التاريخ، فيعجز عن بناء الحاضر والمستقبل. ويفضل ثبات الماضي. ما كنا بحاجة لهذا القول لولا جمود الدين، وثبوته في الماضي، وانتشاره لدى الناس على هذا الأساس، بدل أن يكون عاملاً على تحفيز الإرادة.
الثورة حدث لكن مفاعيلها مؤثرة، ولو بعد حين، وهي تتجدد وتتراكم، لأن الظروف التي تعيشها البشرية، ومنها الشعوب العربية، لا تُحتمل. فأن يملك أقل من 1% من البشر أكثر من نصف ثروات العالم لا يعني إلا الذل والمهانة، ناهيك بالفقر والجوع. النضال ضد الاستبداد مستمر بأشكال شتى، لكنه في حقيقته صراع طبقي ضد ما تفرضه الهوة المتفاقمة في اتساعها بين قلة يملكون وكثرة من البشرية لا يملكون شيئاً. وليس صدفة أن الآثار المُدمّرة لهذا الصراع هي أجلى ما تكون في أنحاء المنطقة العربية. ولا مانع من التجديد في بعض الأقطار العربية، لكنه يبقى متناولاً البنى الاجتماعية والثقافية الفوقية. أما البنى التحتية للمجتمع فلا ذكر لها. وهي بين الاستبداد والطغيان والفقر والجوع ومن ليس لديهم وسائل الترفيه أو الوقت لذلك. لذلك، يُخفي هذا التحوّل الظاهر لمجتمع ما الهريان الحاصل في قاعه وفي حنايا المجتمع الأدنى مرتبة. حبذا لو كان التجديد في أعماق الذات الإنسانية وفي ضرورات عيشها.
لم يصل العالم في ديموقراطيته إلى حالته الراهنة لولا ثورات متراكمة في تأثيراتها. وما يحدث في ظاهر الأمور سوف يتسرّب إلى بواطنها. ومن الواجب النضال من أجل ذلك. الاكتفاء بالظاهر لا يُغنينا عن الباطن، وإن كانت التحولات على سطح المجتمع مقبولة. والإنسان عميق الغور، ومن الضروري الغوص إلى الأغوار. وسيحتاج ذلك إلى ثورات تتعاقب في حدوثها وفي تراكماتها.