صديقي نصحني أن أتفادى العودة إلى مكان يعرف أنني كنت أحبه. بالمكان كان يقصد حيا بعينه وفي الأغلب شارعا محددا بفروعه أو هذا ما تصورت. اتصلت به مساء أمس. هنأني على مقال خصصته لنصيحته. شكرت له تهنئته وسألته الصبر على ما نويت قوله استطرادا لمقالي واتصالا بنصيحته. عدت أؤكد أن النصيحة دعمت موقفا كنت اتخذته منذ سنين عديدة. كنت بالفعل كما ذكرت في مقالي أتفادى في سفراتي العديدة التوقف في بلد أو مدينة قضيت فيه أو فيها بعضا من أحلى أيامي بلياليها. أماكن كثيرة شكلت في حياتي محطات تكوين وإعادة نظر. أستطيع بقليل من التركيز الربط بين سلوك أمارسه في علاقة أو أخرى وبين اللحظة التي بدأ يتكون فيها والمكان الذي نبتت فيه هذه اللحظة. أفعل هذا الربط كثيرا وبفضل ما أفعل صار معظم الماضي بشخوصه ومتعه وأماكنه حيا. أبالغ قليلا فأعترف أن لا علاقة إنسانية أقمتها طفلا ومراهقا وشابا ورجلا في منتصف العمر نسيتها أو انفضت عن ذاكرتي. أعود الآن إلى صديقي المنتظر بالصبر على الهاتف لأقول.
عزيزي محمد
هل فكرت وأنت تعد نصيحتك لي بأننا نتبادل مع أشيائنا الحنين والشوق إذا غبنا أو غابت عنا مددا تطول أو تقصر. وهل فكرت بأن الأشياء إن أهملتها فغبت عنها وعدت فستجدها حزينة ومكتئبة وسوف يصلك من ناحيتها رسائل تعبر عن غضب ونية مؤكدة لإهمالك كما أهملتها. تعرف يا صديقي ما يكفي عن سفراتي وتنقلاتي على امتداد العمر الذي بدأناه معا وعشنا نتشارك في عدد سنينه.
• • •
كانت لنا، زوجتي وأنا، هوايات شتى. إحداها انتقاء وجمع أشياء نشأت، أو أنشئت، في بطن البلد الذي تقرر لنا أن نقيم فيه لشهور أو سنين. كنا في سن المراهقين عندما بدأنا الاهتمام بأشياء البلد الذي التقينا فيه وتعرفنا ثم تزوجنا. للهنود تاريخ لا يعادلهم فيه أو يقترب منه إلا أمم معدودة. تاريخهم غني مثل تاريخ أمم متحضرة، أي أمم عاشت فترات حضارة وخلفت آثارها في الثقافة والدين والتقاليد وفي مجالات إبداع شديدة التنوع. خلفت الحضارة الهندية آثارا في الحب لم تخلفها حضارة أخرى. بالمقارنة يمكن وصف حضارتنا الفرعونية بأنها من الحضارات المحافظة ولا أقول «الرجعية». على العموم أترك هذه المقارنات وهي، في حد ذاتها وبعيدا عن موضوعنا، من اختصاص علماء الآثار والثقافات المقارنة. ما أقول وجدته ينطبق على ما خلفته حضارة الصينيين. هؤلاء اهتموا بفنون إدارة الدولة وأمنها وتحصين قصورها بعد تجميلها وتزويقها بأبدع ما أنتجه خيال الإنسان الصيني على مر العصور. وبالمناسبة تلقب عصور الصين بألقاب امبراطورية سجلها مؤرخون وفلاسفة صينيون وليس بأسماء أسر أو أرقام كما في العصور الفرعونية التي رتبها ووضع تسلسلها مؤرخون أغلبهم من الأجانب.
• • •
في الصين أبدعوا في رسم الطبيعة على الحرير أو في حفرها ونقشها على الخشب والخزف. من هناك حملت معي في رحلتي من آسيا إلى أوروبا أشياء صغيرة مثلت في مجموعها القدرة الرائعة على الحفر والرسم وتشكيل الحجر شديد الصلابة، بعضها ضاع محترقا أو مسروقا من الطائرة التي حملتنا وحملت بعض أشيائنا وفضلت أن تحترق في وطنها في اللحظة التي هبطت فيها في مطار هندي للتزود بالوقود وتغيير أطقمها. البعض الآخر من هذه الأشياء كان في لحظة الحريق تحمله باخرة في طريقها إلى ميناء نابولي. هذه الأشياء الآسيوية هي التي سافرت بعد إيطاليا إلى أمريكا اللاتينية ومن هناك إلى أمريكا الشمالية قبل أن تستقر معنا في القاهرة. خلاصة ما حاولت نقله لك يا محمد هو أننا، العائلة وأشياؤها، أو أكثر العائلة وأكثر الأشياء عاشوا معا لأكثر من سبعين سنة. تنقلوا بين الأربع قارات. أطفالي، أبناء وأحفاد، أكثر من واحدة وواحد قضوا الساعات العديدة من طفولتهم مع تماثيل صينية وهندية وأفريقية يلعبون معها حتى استقر في أذهاننا جميعا، أننا وأشياؤنا، عائلة لا ينفصم عراها، أو لا يجب أن ينفصم.
صديقي العزيز
هل لا تزال معي مصغيا. هل ما يزال في معين صبرك ما يتحمل مزيدا من الإنصات لما أقول والانتظار لما يأتي ولم أصل بعد إلى ما أريد قوله. عدت إلى بيتي. فتحت الباب بصعوبة فالأبواب الخشبية تتمدد في فصول بعينها وتزداد التصاقا بالأرض مصممة على أن تصدر أصواتا مزعجة. صدقني إن قلت إن خيالي ترجم هذه الأصوات إلى إعلان احتجاج من جانب الباب على تصرف ما أتيته أو أتاه غيري في حق المكان أو في حق أشيائي ولم أعلم به في الوقت المناسب. توجهت نحو مقعدي الذي لم أجلس عليه لمدة عامين على الأقل. جلست لدقائق لاحظت أنني تقلبت خلالها تقلب المتوتر، تقلبت كشخص لم يجد راحته على هذا الكرسي، وهو الكرسي الذي كنت أفضله على كل كراسي البيت.
• • •
مددت يدي لأشعل المصباح الجانبي. انكشف ضوء ظننت أنه فاتر لن يفي بأي غرض ولو متواضع. رحت على الفور أطمع في ضوء الثريا غير المحبب في العادة بسبب الكثرة المبالغ فيها في عدد مصابيحها، حتى ضوء الثريا أطل خافتا. نظرت حولي مشتاقا لرؤية أشيائي وبعضها عزيز على قلبي، وجدتها في الضوء الخافت شاحبة الألوان مكسورة الخاطر وحزينة. قرأت في ثنايا أغطيتها الحريرية وفي انثناءات التمثال العاجي لامرأة مقدسة وفي عيون تمثال من الخشب لرجل كهل حليق الرأس يمثل الحكمة الصينية وفي اليد الممدودة ناحيتي لطفل ينادي ولعله يتوسل حضنا أو ربتة عطف، قرأت فيها جميعا رسالة حب طاغ يتعثر. قرأت مشاعر غضب بريء ولمحات عتاب وتأنيب. ساد السكون للحظات أظن أنني سمعت خلالها صوت بكاء ناعم في غرفة مجاورة. أسميها غرفة الامبراطورة لأن لوحة تحمل توقيعا بخاتم آخر امبراطورة للصين تحتل مساحة حائط بكامله.
عشت في هذا البيت سنوات كان لهذه الغرفة أثناءها مكانة خاصة في نفسي. عبق التاريخ فيها نافذ ومؤثر. جرت فيها بعض أهم مشاورات غيرت مجرى حياتي. جرت فيها أيضا خطوبات ابني والبنتين. كانت دائما المكان المناسب لألتقي فيها مع نفسي بعيدا عن عيون المتطفلين وآذانهم. كانت الغرفة التي تفرض على زائرها احترام نفسه والآخرين واختيار كلماته بعناية وتبادل الرأي في أجواء ثقة وهدوء واتزان. وقفت وسط الغرفة في صمت. شعرت كما لو أن رسالة هائمة في الغرفة تريد أن أسمعها. وصلت الرسالة وكانت موقعة هي الأخرى بخاتم الامبراطورة وأختام عديد أشيائي سواء ما وجد منها في الغرفة أو في غرف أخرى. سمعتها بلسان شخص أو شيء متأنٍ في نطق مخارج الألفاظ. بعض الكلمات خرجت حروفها مبتلة بدموع أسى أو حرمان أو إهمال.
جمعت الحروف في كلمات متأثرا برقي اللسان وهيبة الخطاب وظروف الحال ورهف المشاعر فكانت على النحو التالي وبتوقيع «أشياؤك».
مع كل الاحترام ورغم كل الأوقات الرائعة التي عشناها معكم وبينكم، نعتب عليك وعلى الظروف إهمال أحوالنا ومشاعرنا. انتزعتونا من أوطاننا ومن أحضان أهالينا ومن تراب بلداتنا لنعيش معا ثم خطر لكم أن تنفرطوا. والذنب ليس ذنبنا. رحلتم بعد أن أودعتونا مكانا منعزلا لا حس فيه ولا خبر. من فضلك أعدنا إلى الحب الذي وعدتنا به وعشنا فيه فكان النعيم، أو خذنا لأوطاننا. كفانا ذل الاغتراب وقسوة العيش فيه.
ينشر بالتزامن مع موقع “الشروق“