يعيش الوطن العربي، بمشرقه ـ لبنان وسوريا والعراق وصولاً إلى اليمن ـ ومغربه ـ الجزائر، وتونس وليبيا مع توترات في المغرب ـ حالة اضطراب لم يسبق لها مثيل، أقله في الاتساع ثم في شمولية المطالب وجذريتها التي تلخصها بعض شعاراتها: “الشعب يريد اسقاط النظام”.. و”كلن يعني كلن!..”.
لا تواصل بين أطراف هذا “الحراك الشعبي” ولا تنسيق بين القوى التي نزلت أو تنزل إلى الشارع يومياً، كما في لبنان والعراق ـ أو اسبوعياً كما في الجزائر، لكن الهدف المركزي: اسقاط النظام (حتى عندما يموه النظام بالحكم والحكومة).. على أن الهدف الدائم هو التغيير.
والحقيقة ان الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية قد تعفنت، أو أصابها الوهن، أو انها باتت من الماضي، أو أنها بمجملها سيئة السلوك والسيرة، كبار المسؤولين فيها أما لصوص وأما مرتشون، وفي الغالب الأعم هم فاسدون ومفسدون.. بعضهم يحكم بأبنائه وأصهاره، وبعضهم الآخر يتفرد بقراراتها رغم وضوح تناقضاتها وتعارضها إلى حد التضاد مع حقوق الناس ومطالبهم من دولتهم وفيها.
لا تواصل بين الأطراف الشعبية التي تقود الحراك، ولا تواصل بين قياداتها، ولا تنسيق في الشارع، لكن كل حراك يضيف زخماً إلى الحراك الآخر، خصوصاً وأن الأهداف التي تنطق بها الشعارات وتعبر عنها هتافات الغضب والإصرار على المطالب تكاد تكون واحدة.
وفي هذا ما يدل على أن الأنظمة متشابهة في فسادها كما في قصورها عن تلبية مطالب الشعب، أو متهمة بارتباطها بالخارج (الأميركي أساساً) ضد مصالح شعبها، أو بارتكاباتها المتوالية (سرقة ونهب المقدرات وقصور في معالجة أسباب الأزمات التي تعكر صفو الحياة، أو تضرب الشعب بالفقر والعوز مما يسيء إلى كرامته ويذل شموخه وتعاليه عن الصغائر).
بالمقابل فان الأنظمة، القائمة تحاول رمي تهمة الفساد على الأنظمة، التي سبقتها، وتزايد على المتظاهرين بالحديث عن قرارها بإحالة المسؤولين السابقين إلى العدالة (كما في الجزائر) أو بمحاكمتهم فعلاً (كما يحدث للدكتاتور المخلوع حسن البشير في السودان الآن..) والجزائر، كما يردد المتظاهرون مطالبهم.
في الوقت ذاته، وكمفارقة لافتة، تتستر الأنظمة الملكية على فضائح الأسر الحاكمة، أو يجتهد المستجد في الإمساك بالعرش على رفع صوته بالدعوة إلى محاسبة أسلافه الفاسدين، وقد يسلبهم ثرواتهم وهم في السجن، ثم يخلي سبيلهم ليخلدوا إلى الصمت وإلا.. فالسيف أو العزل حتى الاندثار في قلب الوحدة!
للتذكير فقط: حاكم قطر، الشيخ تميم بن حمد، عزل والده الشيخ حمد الذي تحول إلى سائح يجوب بلاد العالم بحراً وجواً… والثروة فيها بلا حدود، نتيجة تفجر الغاز عند شواطئها، مما سمح لها بدور أكبر بكثير من قدراتها، عززه اعترافها بالكيان الصهيوني والدعم الأميركي والتركي.
والأمير محمد بن سلمان عزل ابن عمه الأمير محمد بن نايف من ولاية العهد وهو راكع على قدميه وتولاها بدعم من والده الملك سلمان والأميركان الذين وضعوا له خطة “المملكة رؤية ـ 2030” لتطويرها وتحسين أحوال الرعية.. وها هي المملكة في عهده تشهد خروج المرأة بحجاب خفيف، دون خوف من المطاوعة، وتقام في انحائها التي تم تطويرها المهرجانات والمعارض الفنية والحفلات الغنائية الخ..
لكن أحوال “العامة” لم تختلف كثيراً، وان اراحهم الانفتاح الداخلي، إلى حد ما.
أما الحكم المزدوج في الامارات بين الشيخ محمد بن زايد والشيخ محمد المكتوم فقد دخل النفط ليبني مدينتين حديثتين في كل من أبو ظبي ودبي، وفتح الأبواب أمام الاستثمار في الخارج ومحاولة استرهان بعض الدول الفقيرة لتملك جهات واسعة منها.. (والأمير ـ رئيس الدولة، رسمياً، الشيخ خليفة بن زايد مريض ولا يشفى) والسلطة كل السلطة في يد سائر الأخوة بقيادة الشيخ محمد الذي يتصرف كإمبراطور، فيرسل جنوده (بأكثريتهم من المرتزقة لاحتلال جنوب اليمن) ويرسل بعضهم إلى ليبيا، ويتدخل في شؤون بعض دول افريقيا مستخدماً ذهبه الأسود الذي لا ينضب..
ولقد حاولت السعودية ومعها الامارات استرهان النظام في مصر بالقروض والشرهات، وأمكنهما تطويع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي لا يرفض لحكامهما طلباً، فيغطيان تدخلهما في بعض دول افريقيا بالسمعة المصرية والذهب الأسود.
بالعودة إلى لبنان، تتبدى الصورة أكثر تعقيداً من ظاهرها.
الشعب في الشارع منذ حوالى خمسين يوماً، يملأ آفاق المدن من بيروت إلى طرابلس والكورة وصيدا وصور والنبطية وبعلبك والهرمل وحاصبيا وراشيا وعاليه وبعقلين، بهتافات المطالبة بالتغيير: “كلهم، يعني كلهم”.. والنظام يناور ويماطل: حكومة مستقيلة مع صعوبة تشكيل حكومة جديدة ترضي الشعب ويقبل بها النظام الذي يعجز عن إخفاء عوراته، كما يتهرب من إصلاح وجوه الخلل فيه، حيث يتحكم زعماء الاقطاع السياسي والطوائفي في حياة البلاد والعباد، مطمئنين إلى الصيغة المعتمدة منذ أيام الانتداب لإلغاء الشعب بالطوائف التي قد تختلف على الحصص، لكنها لا تتعب من التكتل في وجه الشعب المنقسم بالتبعية والارتهان لزعاماته العتيقة او المستجدة والجاري تعتيقها لاستحالة التغيير، لأن الغرائز الطائفية هي المرجعية العليا.
وها هو لبنان بلا حكومة منذ نحو شهرين،
الشعب في الشارع، ليلاً ـ نهاراً، يهتف للإصلاح بالتغيير، ويُسقط الزعامات التاريخية، ويؤكد حقه في القرار..
أما السلطة فتناور ولا تقرر: رئيس الجمهورية لا يدعو إلى استشارات ملزمة لتشكيل حكومة جديدة، ورئيس الحكومة المستقيل قد تحول إلى “مرجعية” أو ممر الزامي لكل من يمكن أن يكون بديلاً منه في رئاسة الحكومة، ورئيس المجلس النيابي يتجنب الدعوة إلى جلسة جديدة بعد إفشال آخر محاولة بقطع الطرقات على النواب.. احتجاجاً على “شرعيتهم”.
والبلد معلق بين بعبدا وعين التينة وبيت الوسط، والمناورات المتوالية التي يتسبب جبران باسيل (الصهر) في إفشال بعضها، بينما سعد الحريري يتصرف بمنطق “عرف الحبيب مكانه فتدلل”…
أما الشعب ففي الشارع يعلي صوته برفض الكل (يعني كلهم).
والأزمة الاقتصادية إلى تفاقم، والليرة تنهار أمام الدولار، والضائقة تشتد على “الرعايا” المهددين بالجوع وخسارة مدخراتهم..
ولكن… لا حياة لمن تنادي!
والعرب يتفرجون.. ولا يندمون على خسارة مصيفهم ومرتع مسراتهم، فالعواصم البعيدة تقربها الدولارات، والحسناوات كثيرة، وكذلك المراقص وكازينوات القمار.
والأميركان معهم وقت، بل معهم “الوقت” كله..
أعان الله اللبنانيين، المتروكين الآن لريح الضائقة المالية في ظل الأزمة السياسية التي وحدتهم في قلب الفقر ولكنها ـ ربما لهذا السبب ـ عقدت الحلول.
تنشر بالتزامن مع السفير العربي