تمشي مثقلاً بالفراغ، تنقل عينيك بحذر بين طيف بيت الصديق الذي تهاوى على أحلامكما وبين القذيفة المندفعة لتجتث كل ما يذكر بأصل المكان وأهله.
كل الأمكنة مزروعة بالقذائف المعَنْقدة الأسئلة: هنا كانوا؟! من هنا عبروا؟! هل ماتوا جميعاً؟! إلى أين ارتحلوا اليوم؟! ترى، أين ستكون المحطة الأخيرة؟
امّحت العناوين تماماً. تداخلت أسماء الله الحسنى في ركام القرى التي توحدت في الخراب. للناس جميعاً الملامح عينها الآن. ها نحن نرجع إلى بداية الخلق.
للطائرات السماء، للبوارج البحر والأسماك والشواطئ، أما الأرض فأوسع من أن تكون مقبرة، وأهلها أكثر وأكبر من أن يكونوا مجرد ضحايا.
تنهمر القذائف مطراً. يتكاثف الغاز القاتل في الفضاء. يتجرّح صدر الأرض، ويتساقط الشجر بزهره الواعد بالثمر الشهي شهداء بلا نعي.
لكن الإحصاءات الرسمية لا تحتسب البيوت والشجر والزهر والسماء والبحر والأرض بين الشهداء.
ماذا هم البشر من دون ذلك كله؟
ماذا هو الوطن إذا سلخت عنه هؤلاء جميعاً، أي مكوّناته وعناصره الأولى؟!
* * *
تمشي مطأطئ الرأس، ليس خوفاً من الطائرات التي تخترقه كل لحظة، ولكن لأن عجزك يثقله ويفرغه من وظيفته الأصلية. أفكارك تتكسر متصادمة بعبثيتها. ذهب زمن الجنون، فتقزمت الاحتمالات، وتهاوى التوقع المبشّر باختراق المستحيل. والواقع رصاص تتمنى لو ينفجر لعل حمله يصبح ممكناً.
ماذا بوسعك أن تنتظر غير الموت؟!
ولكن الموت نفسه لم يعد وسيلة لتجديد الحياة.
المفاضلة بين أن تعيش عبثاً أو تموت عبثاً.
وأنت محاصَر بين العبثين، تتضاءل في عيني ذاتك وتذوي قيمتك كاحتمال أو كوسيلة للتغيير، مَن يقرر الحرب يقرر المصير. وأنت مُخرج من دائرة القرار، تطارد نفسك باللعنات، قبل أن تذهب إلى نوم لا ترغب فيه ولا يرغب فيك، لكن تفرضه مهرباً أو ملجأً فإذا هو أقصر الطرق إلى الجحيم.
* * *
الحرب في الخارج، بعيدة إلى حد أن شظاياها تمزق لحم صدرك وتعطل عقلك.
الحرب بين عينيك، تغشي على بصرك، وترميك كماً تافهاً تندب أحلامك وطموحات شبابك وادعاءاتك في زمن اكتمال الرجولة.
وعيونك أمرها هيّن، ولكن أين المفر من عيون أولئك الذين درّبتهم وطالبتهم وحرّضتهم على أن ينظروا الناس والأشياء في عينيها؟!
ملايين وملايين من الرجال بالشنبات، معقوفة أو مطلقة، والنساء المبرجات أو المشعثات الشعر والأفكار، والشبان والشابات والفتيان والأطفال المتوغلين داخل المستقبل، يقعون على أقفيتهم ليتابعوا »الملاحق الإخبارية« التي تنعق باستمرار فتنعى في كل ساعة قرية أو بلدة أو بيتاً أو جبلاً أو تلة أو نهراً…
تتساقط المعالم من فوق الخريطة محوّلة تلك الأمكنة والأزمنة وأجداث ناسها وأحلام ناسها وعواطف ناسها وعرق ناسها وأنفاس ناسها إلى صحراء ممسوحة ومرمية خارج الجغرافيا برغم أنها طالما كانت وطالما ستكون مصنعاً للتاريخ.
تمر الصور أمام العيون تعاتبها: هل صرتم خارجي، هل صرت خارجكم؟! هل أنهى الطيران زمن الوصل؟! هل جاء زمن الفرجة على الجراح بعيون من زجاج؟! هل انسلّت الروح بعيداً عن صاحبها فبات ينظرها من خارجها؟!
تمر العيون على الصور بتلك النظرة الجامدة البلهاء فلا ترى غير النجمة المسدسة وغير ذلك الطيار الإسرائيلي الفرح بأنه رمى فأصاب قلب الجغرافيا والتاريخ والناس الذين طالما تاهوا بينهما يحاولون الحفاظ عليهما فإذا ما ربحوا هذه خسروا ذاك، ولكنهم محكومون الآن بشلل يخرجهما من الاثنين معاً.
* * *
أهش الدبابة عن وجهك، يا حبيبة.
بأصابعي الهشة، بكفي اللدنة كلها، بالكفين، ثم بأنفاسي المحمومة، أحاول جاهداً أن أذبها، وأخاف أن أؤذيك فأحاذر أن أخدش الخد، أو أن أجرِّح الجبين، أو أن أصيب العين… سلمت عيونك، يا حبيبة.
وأنتِ تبكين، وتدارين عني دمعكِ،
تحسبينني أصغرَ من أن أفهم، وتريدين أن تجنبيني الهمّ قبل أن يشتد عودي… لكنني والهمّ توأمان، كبرنا معاً، ولعلني كبرت به، وما اشتد عودي إلا به.
* * *
تتزايد أيام العمر، فيتناقص المعنى وتغور قيمة الحياة.
تتصاعد أمواج الثرثرة، لكن الصمت يصبح أعمق،
يكثر الكلام، لكن الكلمات تتضاءل عدداً، وتشحب الدلالات أو يصيبها التشوه، وبعضها يموت موتاً أخرس فيندثر إلا في الكتب الصفراء العتيقة التي كتبها مَن يملك ما يقوله.
تفرغ اللغة من مضمونها أو يسحبها التجويف المنهجي إلى الضفة الأخرى فتقول عكس ما كانت ترمي إليه أو تدل عليه.
الارادة. النصر. المقاومة. التحرير. الكرامة. العزة. السيادة. الاستقلال. النخوة. الشهامة. النجدة. الأخوة….
لكأنما باتت جرائم مشينة، أو محظورات، أو أهدافاً محتملة للمدفعية الإسرائيلية، فرماها أصحابها حتى لا يدمرهم القصف بسببها.
قلة ممن احترفوا التهريب يحتفظون في سرائرهم بعد ببعض هذه الممنوعات، ويتخذونها أحجبة وتعاويذ ومعابر إلى العصر الآخر،
لكن العصر الآخر هو المشكلة.
لقد نسي العرب الغضب وغاصوا عميقاً في ليل الهزيمة. باتوا خارج الزمن، متوهمين أن تلك أقصر طريق إلى دخول العصر.
وكيف يدخل الغد مَن خسر يومه وأمسه، أو مَن وأد يومه بيديه حتى لا يؤخد غداً بجريرة ما كانه في أمسه؟!
الدوامة تطحن الأفكار والعواطف. أطفئ التلفزيون ورأسك واذهب إلى الملجأ القريب، وابعد فيه حتى انتهاء الزمان.
أبو عمر الشاعر وصابر فلحوط »السياسي«
لن يستسلم »أبو عمر« حتى لو بقي في الميدان وحده،
لقد وعى الدنيا مناضلاً حزبياً، خطيباً وشاعراً للثورة يغنيها ويهزج لها ويقوم حادياً للمؤمنين بها، يعبئهم ويشد من أزرهم ويؤكد لهم أنهم يستطيعون تغيير العالم لو أنهم أرادوا.
ومن موقع شاعر الثورة وحادي الثوار، انتقل صابر فلحوط إلى مواقع التوجيه السياسي، في الدولة التي افترض أنها أخيراً قد باتت »دولة الثورة«، وفي الصحافة التي افترض أنها ستكون منبرها ولسانها والمعبّر عن نهجها في التغيير الجذري الشامل.
لكن صابر فلحوط الذي لم يخلق ليكون موظفاً، سرعان ما وجد نفسه مضطراً لأن يراعي مقتضيات الدولة: إنها الآن دولة الحزب، وعلى الثوار أن يرتاحوا وأن يتعلموا كيف ينتقلون إلى الموقع الآخر. لم يعودوا معارضين، ولم يعودوا دعاة تغيير، بل هم حراس للإنجاز، وعلى الشعر أن »يتقاعد«، أو أن يتراجع إلى الخلف، أو أن يظل حبيس الصدر ينتظر فرصة للتفجر بما لا يؤذي النهج الرسمي.
في كتابه الجديد »العروبة في خطر« لا يفعل صابر فلحوط غير محاولة إقناع نفسه، بداية، ثم الآخرين، بأن السياسة ليست بالضرورة نقيض الشعر، لكنه حيثما تيسر له المجال يأخذك على جنب ليهمس في أذنك: الحل بالسيف، لكن العجز عن استخدامه يلجئني الى مثل هذا الكلام المتهالك، فلا تصدقني ناثراً والحقني إلى شعري لتسمع مني حقيقتي!
ولقد عاش صابر فلحوط عمره ممزقاً بين الفارس الشاعر وبين الكاتب المطالب بالدفاع عن سياسة ليس فيها شيء من الشعر،
وهكذا فقد تعرض صابر فلحوط لظلمين: الشاعر فيه أنقص فرصة »السياسي«، أما »السياسي« فلم يعوّض الشاعر ولم يضف إليه.
وبرغم حنكته وقدرته على السباحة طويلاً تحت الماء، فإن صابر فلحوط كان في لحظات معينة لا يستطيع ضبط الشاعر فيه ويعجز عن منع تفجراته بالصدق الموجع وبالتوصيف الجارح لواقع سلطة الثورة البعيد عن مثالها.
إن موقفه محدد وثابت، مهما دارى وسايس وحاول التمويه:
»ما دخل اليهود من حدودنا
وإنما تسربوا كالنمل من عيوننا«..
فما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، و»مرحبا مفاوضات«:
»ألا إن حقاً لم تؤيده قوة
فذلك في شرع السياسة باطل،
»فلم تنبسط كفاك للحق طالباً
إذا لم تفجر من يديك القنابل«
وعند »أبي عمر« لا انفصام ولا انفصال بين الموقف الطبقي والموقف القومي:
»الكادحون ألست تعلم مَن هم
وجراحهم في مقلتي تدمدم؟
»هم في الحقول وفي الخيام تعاسة
وشكاية وضراعة وتألم
»أبناء أكواخ التشرد والأسى
أنا منهم والشعب شعبي منهم
»لا، لا تغرنك القصور شوامخا
إسأل حجارتها يحدثك الدم
نحن الذين عيونهم وقلوبهم
تتهدم ليشاد قصر متخم..«
ولمزيد من التحديد الدقيق للهوية يهتف الشاعر وهو يرد على الصحافي العربي:
»أنا فلاح من الشام له
إخوة في كل حقل من بلادي
»أضلع النيل عليها من دمي
مُزن تسقي وتعطي كل واد
»وعلى النهرين جرحي نخلة
في جذور الدهر جيش من عناد
»أنا فلاح وقصري خيمة
مزقتها ريح مَن ولوا قيادي،
»قل لمن ساسوا أموري كفنوا
روعة الشمس بأمواج الحداد،
»لن يطول الليل إني لأرى
ألف فجر من جراح الشعب باد«.
في الإهداء كتب صابر فلحوط: »إنها همسة مبحوحة تند عن الأمة المذبوحة من البطين إلى الأذين«…
.. وهي مبحوحة لأن »أبا عمر« اضطر لأن يداري في التحليل ألا يحرج السياسة الرسمية، ووصل الى آخر مدى وهو يحاول التعبير عنها مفترضاً أن »الآخرين« الذين سيقرأون سيحاسبون… والشاعر وحده خارج الحساب!
ميزة صابر فلحوط أنه لا يستطيع قبول القناع، ولذا حرص دائماً على الفصل بين الشاعر فيه، وهو الأصل، وبين »المسؤول الاعلامي«، سواء في موقع التوجيه السياسي أو على رأس اتحاد الصحافيين،
ولسوف تطول رحلة صابر فلحوط بين المتنبي والجواهري، بين أيام الفتوح العربية الكبرى، وبين الثورات المعاصرة من سلطان الأطرش الى حزب البعث مروراً بجمال عبد الناصر والانتفاضات المتواصلة على أرض فلسطين… لكنه سيظل يغتنم كل فرصة لكي يقول في أذنك ما لا يقال علناً، ولكي يتفجر شعراً حين تضيق به قيود النثر الرسمي المحاصر بالقرارات الدولية التي لا ترجع أرضاً ولا تحفظ كرامة… هذا إذا نفذت، فكيف وهي لا تنفذ؟
لذا فليس خاطئاً ذلك التقديم لصابر فلحوط الذي حمله ظهر كتابه الجديد والذي بلغ ذروة اكتماله بالفقرة الأخيرة فيه: »يؤمن أن الوحدة العربية قدر أجيالها… ولينتحر الذين يحاولون إطفاء شمسها بفحيحهم«!
بقي أن تعرف أن الدار التي أصدرت الكتاب تحمل اسم »دار الاعتدال«!
وصابر هو المعتدل أما أبو عمر فيستمر يبحث عن ثورات جدته ليكون حاديها!
الحكواتي حسن داوود ومكره الروائي
»حكواتي« حديث هو، حسن داوود.
بحر الذاكرة واسع المدى، وهو يغرف منه باستمرار، ويمضي يسرد، ويسرد ويسرد، مستعيداً تفاصيل التفاصيل بعد أن ينظمها في سياق يحفظ لها المعنى الذي سرعان ما يلد عملاً روائياً جديداً.
ولأن حسن داوود قارب الصحافة فقد أفاد من حرية الحركة فيها، وطعَّم أسلوبه في الكتابة بما أخذه منها من دون أن يسمح لها بأن تأخذه كله إلى رحابها وأن تفرض عليه »تقاليدها« التي عادة ما »تقرض« الموهبة أو تعيد تشكيلها بما يتلاءم مع مقتضيات السرعة والإيجاز إلى حد ابتسار المعنى أحياناً.
حسن داوود يملك من الوقت ما يكفي لكي يستعيد شخصياته فيكمل بناءها وفق رؤيته الفنية. إنه لا يتدخل فيفرض على أي من الشخصيات لباسه أو لغته، ولكنه يستمر في ضبط الحركة بحيث لا يتسلل أحد خارجاً من الإطار الروائي الذي حدده.
في لحظة، يتملّك منك الشعور أمام مجموعة لوحات أو »بورتريهات« لرجال وقلة من النساء التي لا ينظمها ناظم، إلا رغبة حسن داوود في تصويرها أو رسمها وفي لصق الواحد منها إلى جانب الآخر. لكنك سرعان ما تكتشف أن الكاتب أمكر مما قدّرت، وأنه نسج الشبكة بهدوء من حولهم جميعاً وأمسك بالخيوط فإذا هو يحرّكهم ببطء ويدفعهم دفعاً إلى حيث أرادهم أن يصلوا.
ولأنه ماكر، فقد استطاع حسن داوود أن يحوّل سنوات طفولته إلى روايات، وأن يحوّل كل من عرف في البيت أو في الفرن أو في الطريق بينهما إلى شخصيات روائية، وأن يحوّل همومها الصغيرة ومتعها الصغيرة إلى وقائع تصطنع إذا ما أعيد سردها بشيء من الترتيب عملاً فنياً فيه من صنعة الكاتب القليل وفيه من حرفة »الريبورتر« الصحافي أكثر.
»سنة الأوتوماتيك« تقنعك بأن ركاماً من التفاصيل الصغيرة يمكنها أن تتحول إذا عالجها قلم متمكّن إلى شهادة على مأزق التحولات التي يعيشها المقبل على تطور لم يهيئ نفسه له.
ولا يظننّ أحد أن حسن داوود قد أراد أن يقدم وجهاً آخر، لبنانياً هذه المرة، لصراع الإنسان مع الآلة، أو مع التقدم إجمالاً، لكن الرواية في النهاية قدمت صوراً إن أنت جمعت بعضها إلى بعض لدهمك مثل ذلك المعنى فجأة وعلى غير توقع أو انتظار.
الآلة؟!
يظل للمرأة، صبية أو في خريف العمر، عربية أو أجنبية، قريبة أو بعيدة، النصيب الأعظم من الاهتمام والتفكير والرغبة والدور.
ومع أن وجود »المرأة« في »سنة الأوتوماتيك« باهت إجمالاً، إلا أنها تظل »البطل« حتى لو أُسقطت بعض صفاتها، أو بعض مشكلات التعامل معها على فرن أوتوماتيكي يبنى بالتدريج ليستولد حالة كتلك التي اقتبس حسن داوود وصفها من »لسان العرب«: »أصابتهم السنة، وهي القحط والجدب«.