دمشق ليست مجرد مدينة عربية أخرى. لعلها، باعتبار التاريخ، أقدم مدن العرب. ولعلها، باعتبار الجغرافيا، قلب هذه الأمة. ولعلها، باعتبار السياسة الإقليمية العربية، العاصمة الناشز إن صح التعبير. ولعلها، حسب رأي أطراف في جلسة حوار، المشكلة صاحبة العدد الأكبر من الاعتبارات إن سمحت دمشق فجعلناها موضوع نقاش.
بالفعل بدأ النقاش وموضوعه ما وراء وما بعد التطورات الراهنة في سوريا وحولها بالاتفاق على ضرورة أن يراعي أطراف النقاش اعتبارات بعينها تكاد تختص بها سوريا وأن يضعوها في الحسبان. لا يعني هذا ولا يقتضي بالضرورة الاعتراف بأن سوريا استثناء في منظومة الدول عامة والعربية بخاصة ولكنه يظل بمثابة إقرار بأن سوريا صنيعة امتزاج يكاد يكون فريدا لظروف إقليمية ودولية وطبائع دينية وعرقية وثقافات خلفتها سلسلة من الغزوات شنت بعضها وشنها عليها البعض الآخر. لكن من بين عديد الاعتبارات التي يجب أن تؤخذ في الحسبان هناك اعتبارات بعينها صارت في الآونة الأخيرة تضغط بشدة لتسهم في صنع واقع جديد ليس فقط في سوريا ولكن أيضا في الإقليم، وسوريا، كالمتوقع، في قلبه حتى عند التحضير له.
***
من العدد الكبير لهذه الاعتبارات اخترنا لإثراء النقاش عددا صار بالفعل من المتغيرات الأهم المحيطة بتطورات الوضع الراهن في سوريا، نعرضه بإيجاز مناسب فيما يلي:
أولا: لسوريا موقع استراتيجي ومقام معنوي في الإقليم منذ الفتح الإسلامي وربما من قبله وبالتأكيد من بعده من خلال طموحات الدولة الأموية وتوسعاتها وبخاصة في شمال إفريقيا وجنوب أوروبا وبالتحديد في جنوب إسبانيا، كل منهما، وأقصد الموقع والمقام، رتب على حكام سوريا التزامات وفرض سلوكيات بعينها سواء كانت دمشق خاضعة لنفوذ خارجي أوسع أو هي نفسها صاحبة النفوذ.
ثانيا: يعتقد المحلل القريب من السوريين وبخاصة من اختلط بهم في الداخل السوري أو خارجه أن صبر المواطن السوري نفد أو بدأ ينفد علما بأن السوري في الأصل إنسان ” قلوق” إن صح التعبير. يعتقد المحلل أيضا أن السوري إذا اعتنق أو تبني عقيدة اختار جانبها المتطرف أو الأشد تطرفا وربما انتهى الأمر بأن تتصف العقيدة فعلا بالتطرف وهي في الأصل غير ذلك. يشهد بذلك بعض مراقبي تطور فكر القومية العربية وتاريخ حزب البعث وموقعهما في التاريخ السياسي العربي.
ثالثا: تقع التطورات السورية الراهنة، ولوقت قادم، في قلب تطورات قد تأخذ شكل تحولات في النظام الدولي وبخاصة ما يشير إلى قرب نهاية نظام الهيمنة، والمعروف بنظام القطب الواحد. تتسم المرحلة الراهنة بصفة السيولة الدولية تحت ضغط الجهود الأمريكية المبذولة لإضعاف القطب الروسي ومنع الصين من الصعود إلى مرتبة القطب الأول أو حتى الثاني. لا يضير واشنطن بل لعله يفيدها أن يلتهب الشرق الأوسط ولروسيا نفوذ فيه.
رابعا: في الوقت نفسه، ولوقت قادم، تجري استعدادات على أصعدة متعددة لتأسيس شرق أوسط جديد. بالفعل توقف النشاط، أو كاد يتوقف، في أنحاء النظام الإقليمي العربي وربما لأجل غير معلوم. لا يمكن تجاهل واقع خروج دول أفريقيا العربية، ومصر واحدة منها، من التفاعلات التي صارت تتصف بالتفاعلات شرق الأوسطية وأطرافها الرئيسة هي تركيا وإيران وإسرائيل. أما الساحة الرئيسة لإدارة صراع كفيل بإحياء فكرة الشرق أوسطية الجديدة فلن يجدوا أفضل من سوريا ساحة مناسبة ليجري على أرضها.
خامسا: بشكل مؤقت، يمكن تحريك قوات المعارضة المسلحة السورية من حلب وإدلب، وتوجيهها نحو دمشق ولكن بعد نزع صفة الإرهاب عنها. ولا يمكن لأحد غير الولايات المتحدة والمملكة المتحدة محو هذه الصفة عنها، ولا يمكن لدول المنطقة وبخاصة المجموعة الخليجية وإسرائيل التعامل معها مستقبلا إلا إذا صدر المحو من هاتين الدولتين. من المعلوم أيضا أن الشك في توجهات القادة الجدد تجاه إسرائيل يبقى قائما بعد توليهم السلطة في دمشق، ولذلك وقع إبلاغ إسرائيل مقدما بالتزام الزحف الإسلاموي العسكري الشروط التركية والأمريكية بالتوقف عند دمشق والسماح لها بانتهاز الفرصة لتعديل حدودها مع سوريا كما فعلت مع غيرها من الدول المشاطرة لها في الحدود. بمعنى آخر، ما كان متصورا بدء الزحف الثوري في اتجاه دمشق بالسرعة المقررة سلفا دون علم كل من أنقرة وتل أبيب وطهران، وربما دمشق ذاتها.
سادسا: كان لا بد أن تتعرض إيران لعدد من الانتكاسات الدبلوماسية والسياسية وأيضا العسكرية قبل أن يبدأ زحف الثوار على دمشق مرفقة جميعها بحملة تشكيك واسعة في النوايا الحقيقية وراء السياسة الإيرانية تجاه المنطقة فيما انتهى إلى واقع ما سمي بتفكيك الساحات واندحار قوى المقاومة.
سابعا: لا مشكلة كبرى يجوز أن تواجه قيادة قوات الثورة خلال زحفها مرورا بحماة وحمص وريف دمشق قبل دخول العاصمة وبعده مباشرة. لن يكون صعبا الإيعاز أمريكيا أو أوروبيا أو خليجيا للحكومة المدنية القائمة بالاستمرار في أداء وظائفها دون أي اعتبار للتهديد الذي تمثله القوى الزاحفة. بل ومن الضروري تهيئة فريق مختلف من المدنيين لتولى مسئولية إدارة الحكم بالتفاهم المسبق مع قادة الثورة بحيث لا تبدو ساحة الإدارة والحكم خالية فينفذ إليها عناصر الفوضى والتخريب.
ثامنا: الكل مدرك أن استقرار الحكم في سوريا يعتمد في الأساس على مدى اطمئنان الأقليات، وهي عديدة كما هو معروف، على مصالحها في ظل حكم أو هيمنة أقلية أو أخرى. البديل في النهاية لن يخرج عن تسلط حكم استبدادي أو بآخر ولكن بتكلفة باهظة مادية وسياسية لا تقوى على أي منهما حكومة سورية في الأجل المنظور.
تاسعا: تحت الضغط الخارجي سوف يتعين على الدول العربية الشقيقة الاعتراف بالحكومة التي يختارها الثوار بمساعدة من دول إقليمية متفهمة أو متقبلة الأبعاد الحقيقية لطبيعة وتفاصيل المعارضة الثورية. التوقع الغالب هو أن تقوم تركيا بالدور الأكبر في التحضير لهذا الاعتراف مع حكومة دولة عربية أو أكثر، وربما أيضا مع الجامعة العربية وبالتشاور غير الصريح مع إسرائيل.
عاشرا: لولا الشلل الذي أصيب به النظام الإقليمي العربي نتيجة سقوط أنظمة حكم عربية الواحد بعد الآخر أو ربما سقطوا بسبب هذا الشلل، نقول لولا هذ الشلل لما حدث هذا السقوط المريع، وفي قول آخر، السقوط الهزيل أو الهزلي، للنظام السوري. سقوط رغم هزاله أو هزله يفتح الباب أمام تطورات لا تشي مقدماتها بخير يعوض الشعب السوري عن سنوات طويلة من الاستبداد والعنف، ولا تشي بأمل يعوض الفلسطينيين واللبنانيين ومن يستجد من الشعوب العربية عن حروب إبادة شنتها إسرائيل أو تستعد لشنها ضدهم وضد غيرهم من الشعوب العربية.
***
كم تمنينا أن تكون فرحتنا بسقوط الاستبداد في سوريا على مستوى فرحة السوريين، والآن نتمنى أن يكون حظ السوريين أفضل من حظوظ شعوب عربية أخري سقطت حكوماتها ولم ينصلح حالها.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق